نشرت جريدة "العربي الجديد" الالكترونية يوم السبت 11 أبريل 2015 حوارا مع الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي. تحدث فيه عن كل شيء إلا عن الأهم؛ تحدث عن الربيع العربي ومآلاته، عن المغرب العربي، عن الشباب المغربي، عن علاقة الصداقة والاستشارة التي تربطه بالملك الحالي، عن وقت فراغه، عن آخر مقروآته، عن الجابري. لكن يبدو أن الاتفاق أبرم منذ البداية بين الصحفي واليوسفي بعدم الاقتراب من التاريخ والسياسة؛ فعندما سأله الصحفي :كيف ترى حال المغرب اليوم، أنت الذي قدت العمل الحكومي في مرحلة صعبة (حكومة التناوب)، ذكّره بأنه اتخذ قرارا نهائيا ولا يود تكسيره في هذا الحديث؛ والقرار هو "عدم الحديث عن الشأن السياسي". لا شك أن الأستاذ اليوسفي يُعدُّ من رجالات المغرب الذين لا يملك المرء إلا أن ينحني أمامهم إجلالا واحتراما رغم كل الاختلافات؛ فالرجل من طينة خاصة، وقدم الكثير لبلده في الزمن الصعب، وحتى في اللحظة التي وُرِّط فيها بالدخول لحكومة "ضمان الانتقال السلس للحكم" لم تتلطخ سمعته بملفات الفساد، أو قرارات لا شعبية، أو استبداد من أي نوع؛ وعذره الوحيد والأوحد أنه كان يتعامل مع "سياسيّ" أكثر منه حنكة ودهاء اسمه الحسن الثاني، الذي استطاع في نهاية مشواره أن يطوّع الحزب بتطويع الرمز انطلاقا من اتفاق سري عرف حينه ب"القسم على المصحف". فعلى ماذا أقسم الطرفان؟ هل كان ضمان سكوت الأستاذ اليوسفي عن محطات تاريخية مهمة في تاريخ المغرب ضمن هذا الاتفاق، مثل: حقيقة ما جرى في "إكس ليبان"، والحقائق التي رافقت عودة "الأسرة الملكية" من المنفى، والاتفاقات السرية التي صاحبت خروج فرنسا، وعلاقات الحسن الثاني مع إسرائيل: وليا للعهد وملكا، وتصفية جيش التحرير، ومقتل كل من بنبركة وبن جلون والمساعدي، وقصف الريف، وقضية الصحراء... ؟ ولكن في المقابل ما الذي ضمنه الحسن الثاني لليوسفي؟ هل هي أمور شخصية وعائلية؟ ممكن، خاصة وأن جل المناضلين الذين كانوا أكثر تطرفا اتجاه الملك والملكية انبطحوا في النهاية وتهافتوا على الاستفادة من كعكة المخزن. ولكن الأستاذ اليوسفي حقيقة نعدّه أكبر من هذا. هل الأمر متعلق بما قيل من مشاركة اليوسفي وأصدقائه في العمليات الانقلابية على الحسن الثاني؟ وتذكروا معي رسالة الفقيه البصري التي نشرتها أسبوعية "الصحيفة"، والتي يشي مضمونها بهذا الأمر، وقد تمّ تحوير النقاش يومها من النبش في فحوى الرسالة إل حديث مسهب حول حقوق الصحافة وحرية التعبير؛ لأن اليوسفي حينها كان قد منع الصحيفة ! في جميع الأحوال، لقد لعب الأستاذ اليوسفي دون أن يشعر دورا في خطة لتصفية مرحلة أريد لها أن تنتهي لتبدأ أخرى بوجوه جديدة في لعبة استراتيجية الاستمرارية والبقاء. السؤال هنا؛ إذا سكت من هم على شاكلة الأستاذ اليوسفي ومنزلته: تجربة وأخلاقا ونوعَ مبدئية فمن يا ترى سيكتب تاريخنا؟لا شك أن الساحة ستخلو ل"مؤرخي المملكة" الذين هم في نهاية المطاف موظفون مكلفون بمهمة تنقية "تاريخ المملكة" مما يعتبره "المخزن" شوائب ومنغّصات.تتملكني الحيرة عندما يواجهني السؤال التالي: لماذا كل نخبنا الفكرية والسياسية تقريبا صامتة إلى حدّ الخرس أمام حقائق تاريخية تعلم جيدا مدى إصرار "المخزن" على طمسها وتقديم سرديات مزيفة بدائل عنها؟ الإجابة أعرفها جيدا؛ فلا يسكت الإنسان إلا خوفا أو طمعا... وأنا أنتظر من يقنعني بالعكس. لكن ... لماذا لا تجرّب هذه النخب "متعة الموت وقوفا"؟ نداؤنا للأستاذ اليوسفي، وهو في عقده التاسع، أنَّ أمامه مسؤولية عظيمة وجليلة اتجاه وطنه والأجيال القادمة؛ فالسكوت لن يخدم سوى مزوّري التاريخ ومحرّفيه. ولكن، هل يستطيع أن يخطوَ خطواتٍ تاريخيةً، وينجز ما يريح ضميره فيما تبقى له من عمر؟ كل المؤشرات للأسف تدفع في غير ما نطمح إليه. ويبدو أن "المخزن" لحد الآن ناجح في لعبة الإسكات هذه؛ فكل الذين كان لهم دور في تاريخ المغرب المعاصر ودَّعوا عالمنا دون أن يتركوا لنا ما يفضح الرواية الرسمية.