عندما تأكد اليوسفي من خطورة مرض الملك الراحل و أن أيامه باتت معدودة، دخل في مفاوضات مع المخزن حول آخر التفاصيل حول اتفاق الدخول في تجربة التناوب. اتفاق يلتزم بموجبه هذا الأخير، أي المخزن، على عدم استعمال اسلحته الهابطة، على الأقل، طول مدة التناوب. كانت التحديات الرئيسية التي ارخت بظلالها علي تلك المفاوضات هي: أولا، مبدئيا، يمكن التفاوض مع طرف معين على اتفاق غير معقد. أي، عندما تكون المخاطر بسيطة و لا تحتاج إلى الكثير من حسن النية. مثل رصد مواقع التدخلات المحتملة التي لا ينبغي فيها بتاتا للمخزن أن يتدخل و ذلك عبر التنصيص الحرفي عليها و إعلانها على العموم و جميع الملاحظين حتى يستطيعوا الضغط في حالة عدم الإمتثال. مبدئيا أيضا، يمكن التفاوض على اتفاق معقد بين طرفين يتقاسمان قيما مشتركة، أي أنهما يقبلان الاحتكام بانتظام، في حالة سوء الفهم بينهما، إلى أنظمة المراقبة الوطنية أو الدولية مثل القضاء الوطني المستقل أو اللجن الأممية المتخصصة. لكن يصعب ابرام اتفاق معقد مع طرف ليست فيه ثقة: هذا بالضبط ما حصل لليوسفي مع المخزن. الأول لا يثق في الثاني و مع ذلك أبرم معه اتفاقا حول التناوب. كانت كل بنود ذلك الإتفاق ملغومة وكان يلزم الكثير من حسن النية و اليقظة التامة لتفادي غش المخزن و ألاعيبه. هل سهر اليوسفي و حزبه إذن على ذلك طيلة مدة المفاوضات؟ للأسف لا، لم يسعى اليوسفي إلى استخراج اقصى ما يمكن من الدروس و العِبر من تجربة عبد الله ابراهيم الذي حوَّل المخزن مهمة حكومته إلى جحيم. لم يحرص على تفادي تلك التجربة الأليمة ولم يتشّجع و يفرض أكبر عدد من الضمانات وأجهزة رصد جديدة وواقعية حول كل بند من بنود الاتفاق. لم يكن متفقا مع نفسه على عدم التسامح مطلقا مع أي نوع من أنواع الغش التي كان يمكن للمخزن ان يرتكبها، لم يدرك تماما أنه كان سيدفع ثمنا باهظا جدا إذا حصل غِش. ثانيا، بالنسبة لليوسفي، كان الأمر يتعلق فقط باتفاق لمنع التدخل في قراراته الإصلاحية. أما بالنسبة للمخزن، فالأمر كان يتعلق ب "أزمة هوية": المطلوب منه أن يتحمل الإصلاحات لكي يتخلص من أزمته. أي، كان السؤال المطروح: هل سيتخلى المخزن، بمناسبة التناوب، عن هويته التقليدية الإستبدادية؟ لقد بين التاريخ الحديث للمغرب، بما لا يدع اي مجال للشك، أن الشغل الشاغل للأحزاب الوطنية الإصلاحية في كل تفاوض مع المخزن كان هو احترام الدستور. في كل مرة كان هذا الاخير يتملص بشكل من الأشكال و يُجهض كل عمل اصلاحي ذي بال. لكن إمتحان التناوب كان يبدو للكثيرين، بما فيهم اليوسفي، طفرة نوعية و تاريخية ستحسم نهائيا في نمط الدولة المغربية: إما دولة حديثة علمانية و إما دولة تقليدية إسلامية. هذا الحسم كان واردا منذ السنوات الأولى للاستقلال حيث انخرطت كل حركات التحرر في كل الدول التي تخلصت من الإستعمار في مسارات تحوُّلِيّة سمحت لها بالقطيعة مع إرث أنظمة ما قبل الإستقلال. لكن المخزن لم ينخرط أبدا في تلك العملية، لقد لجأ فقط، من حين إلى أخر، إلى حكومات إصلاحية صورية لتمرير الأزمات إذ يبقى صاحب القرار دائما هو وحده الحرس القديم. توجد إذن نواة صلبة في المخزن لا تريد اصلاحات جذرية ليس فقط للتحوُّط ضد تآكله ولكن أيضا لمنع الأندماج الكلي الذي من شأنه أن يفتح المغرب على كل تأثيرات العصر الحديث. انفتاح يُخشى أن يُضعِف الخصوصية المغربية التي هي بالضبط السر الذي يضمن إستمرار المخزن. ذاك كان السبب الذي جعل الحسن الثاني يقول لليوسفي: "إمضِ في طريق الإصلاح فأنا معك، لكن لا تنسى بأن هذا البلد هش." المخزن إذن هش و يعيش أزمة هوية من جهة، و من جهة أخرى يرى أن التناوب هي وسيلته الوحيدة لتجاوز مرحلة انتقال الحكم بين الملك و ولي عهده. لكن ما لم يكن يدركه اليوسفي و من معه هو أن المخزن لم يكن يفهم من مفهوم التناوب سوى استبدال خادم بخادم أخر في انتظار مرور العاصفة لكي يعود إلى عاداته القديمة. كان التحدي الذي يواجه اليوسفي هو فيما اذا كان يمكن التوصل الى اتفاق مع المخزن الذي اتفقت أغلبية رفاقه بأن سلوكه تغير لكن لا يزال يحافظ على طبيعته و شخصيته العميقة. كان رهان اليوسفي – و لم يكن رهانا مجنونا - هو أنه إذا كان من الممكن الحصول على ضمانات جيدة و واقعية تستطيع كَفَّ يد المخزن من إفساد كل مبادرة اصلاحية، على الأقل، طيلة مدة التناوب، فذاك وحده يستحق الدخول في التجربة. ثم آنذاك يتوجّب العمل في اتجاه تغيير طبيعة المخزن من الداخل. ولكن من يضمن ذلك إذا أقدم هذا الأخير على الغش. إعتقد اليوسفي أن لا شئ يقف عائقا امام تطبيق الإصلاحات الجوهرية في المغرب أكثر من السنوات الطويلة التي امضتها الأحزاب الوطنية في الحرب الباردة مع المخزن، فاعتقد أنه إذا كان يمكن تخفيف حدة تلك الحرب بحكمة فإن ذلك سيكون خطوة كبيرة نحو الأمام. الإعتقاد معقول إلا أن المشكل كان فقط في صعوبة تحقيقه لأن ببساطة: مصلحة الحرس القديم هي في تجميد الإصلاح و بالتالي الحرب لن تتوقف. ارتكب المخزن من جديد جريمة العَوْد و أجهض عملية التناوب و اغلق باب المغرب امام تحول ديمقراطي كان من الممكن جدا أن ينجح. رهن اليوسفي كل شيء، بما في ذلك الرصيد العام لحزبه، مقابل تلك اللحظة التاريخية التي هرمنا من أجلها، لكنه خسِر و ضاع كل شيء. هل نفس المصير ينتظر بنكيران؟ الجواب على الأرجح هو نعم، لأن طبيعة المخزن واحدة.