سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الحصيلة السياسية.. كبوة «المنهجية الديمقراطية» ونجاح امتحان الدستور الجديد تميزت بحدثين بارزين هما تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة ووصول الإسلاميين إلى الحكومة
في مثل هذا اليوم من سنة 1999، توقف الزمن السياسي المغربي قليلا ليشهد على تولي الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية بعد موت والده الملك الحسن الثاني. بطبيعة الحال، كان الجو السياسي يومها مشحونا بتكهنات كثيرة في ظل تناوب هش قابل للانفجار في أي لحظة وتركة سياسية ثقيلة فصلها إدريس البصري على مقاسه أيام كان يتحكم في دواليب وزارة الداخلية. بالنسبة إلى محمد السادس، كان التناوب ضرورة تاريخية لتثبيت أركان الملكية المغربية. وبدا حينها الملك الجديد واعيا أشدّ ما يكون الوعي بضرورة ضخ دماء جديدة في حكومة التناوب التي قادها وقتئذ عبد الرحمان اليوسفي. لا ريب أن اليوسفي، ومعه جماعة الكتلة الديمقراطية، جنّبت المغرب في فترة بعينها «السكتة السياسية» ودفعت الثمن في ما بعد غاليا، بعد أن قرر الملك محمد السادس، عقب ظهور نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2002، أن يستعين بالتقنوقراطي إدريس جطو لتدبير المرحلة الجديدة. وعدا البيان الشهير لحزب الاتحاد الاشتراكي، الذي انتقد فيه عدم الاحتكام إلى المنهجية الديمقراطية، «ابتلعت» الأحزاب السياسية الأخرى ألسنتها وانخرطت في تسيير العمل الحكومي واصطفّت أخرى في صف المعارضة.. فُهِم الأمر حينئذ على أنه محاولة من المؤسسة الملكية ل«حصر» نفوذ حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة عبد الرحمان اليوسفي. ظل الملك، في كل خطبه، يلحّ على أن الحقل السياسي المغربي يتطلب إصلاحا حقيقيا، وكان في كل مرة يبعث رسائل مشفرة وأخرى واضحة إلى الأحزاب السياسية المغربية حول حتمية تجديد هياكلها والتكيف مع طبيعة المرحلة، بيد أن الأحزاب السياسية ارتكنت إلى خلافاتها الداخلية والتهافت نحو لعبة الكراسي، علاوة على خشيتها من اصطدام مباشر مع القصر، وهي كلها عوامل مهّدت الطريق للملك محمد السادس، فأصبح بذلك صاحب المبادرات الكبرى المُحدِّدة للسياسات الكبرى للدولة. واضح، إذن، أن الملك محمد السادس استطاع، خلال الخمس سنوات الأولى من حكمه، تحقيق ما لم يحققه أبوه الملك الراحل الحسن الثاني: أحزاب كانت إلى وقت قريب تفصح عن معارضتها للمؤسسة الملكية أصبحت تسير في فلك المخزن وخريطة سياسية واضحة الملامح تسمح للملك أن يكون فاعلا أساسيا، لاسيما أن دستور سنة 1996 ما يزال يمنح المؤسسة الملكية دورا مركزيا في الساحة السياسية المغربية. استمر الأمر على هذا المنوال، خاصة أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كان يعوّل عليه أن يحقق «التوازن» بين فرقاء المشهد السياسي والمؤسسة الملكية استنزف وقته في تدبير الشأن الحكومي ولفّ المخزن على عنقه حبل الاصطدام المباشر مع الشعب.. أما باقي أحزاب الكتلة الديمقراطية، ممثلة في حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية، فقد دخلا عهدا جديدا في علاقتهما بالقصر. كان جمود المشهد السياسي طيلة أكثر من 5 سنوات ينذر بمنعطف مفصليّ ينتظر الزمن السياسي المغربي، ولم يتأخر هذا الانعطاف كثيرا، حيث جاءت الانتخابات التشريعية لسنة 2007 لتشكّل صدمة حقيقية في صفوف السياسيين المغاربة ليس لأن الانتخابات التشريعية أفرزت حزبا فائزا جديدا، وهو حزب الاستقلال، بل لأن نسبة المشاركة، التي لم تتجاوز 37 %، دون احتساب الأصوات الملغاة، دقت ناقوس الخطر وأشّرت على بداية علاقة جديدة بين المواطن المغربي والسياسة، مدموغة بفقدان الثقة في المؤسسات والعزوف عن المشاركة في الانتخابات.. وهي مؤشرات كانت توحي بأن فاعلا سياسيا جديدا على الساحة السياسية المغربية بدأ يتبلور ويشق طريقه ببطء، مستفيدا من الفراغ الرهيب ومن الترهل الذي تسرب إلى مفاصل المشهد السياسي المغربي. لأول مرة في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، يُسمَع صوت الإسلاميين بقوة داخل المجتمع. ولئن كانت جماعة العدل والإحسان قد تراجعت قليلا إلى الوراء بسبب تضييق الخناق الذي مورس ضدها، فإن حزب العدالة والتنمية، الذي أسسه المرحوم عبد الكريم الخطيب، استثمر انعدام الثقة بين الناخب والفاعل الحزبي ليبدو بمظهر المنقذ، وهو مبدأ قديم في أدبيات الحركات الإسلامية. وبذلك تعقدت حسابات المشهد السياسي المغربي، لاسيما أن الإسلاميين كانوا يزحفون بصمت في اتجاه امتلاك قوة انتخابية ستكون، لا محالة، مقلقة للدولة. حينذاك، كان المغرب مشغولا بقضية الصحراء، بعدما انتهى مسلسل المفاوضات مع أطراف النزاع حول مغربية الصحراء إلى النفق المسدود بسبب التّعنت الجزائري والتدخل غير المباشر للجارة الجنوبية إسبانيا في مسار المفاوضات وحسابات معقدة لمصالح الدول الكبرى. يقينا، أحس المغرب أنه أمسى بين فكّي كماشة، فوضعه السياسي الداخلي لا يبعث على الارتياح وملف الصحراء يراوح مكانه. ولأن المؤسسة الملكية كانت، طوال أكثر من 4 عقود، تستل ورقة الصحراء لتحقيق الإجماع الوطني، فقد كان طرح مبادرة الحكم الذاتي في هذا الظرف بالذات ضربة ذكية من طرف المؤسسة الملكية، فمن جهة وضعت الجزائر ومعها جبهة البوليزاريو في موقف حرج أمام مصداقية هذا المُقترَح، الذي حظي بمساندة القوى الفاعلة الكبرى في العالم، بل وأصبح خيارا مطروحا للتفاوض بشأنه، ومن جهة أخرى، أن تضمن لنفسها دعم الأحزاب السياسية المغربية من دون استثناء. بعد عام فقط، تحركت الساحة السياسية المغربية وأصيب الفاعل السياسي المغربي بالذهول والدهشة حين أعلِن عن ميلاد حزب جديد هو الأصالة والمعاصرة.. خرج، يومئذ، فؤاد عالي الهمة من رحم وزارة الداخلية، ليؤسس «حركة لكل الديمقراطيين»، ثم ما فتئ أن أسس حزبا سياسيا وُجِّهت له انتقادات حادة بكونه حزبا للإدارة.. وآخر فصول هذه الاتهامات ما صرح به ابن دار المخزن، حسن أوريد، الذي قال بشكل لا يدع مجالا للشك إن الحزب هندس الخريطة السياسية مسنودا بالسلطة والإدارة عبر توظيف السلطة الكبيرة للولاة والعمال.. على كل حال، وجد الفاعل الحزبي المغربي نفسَه في وضعية حرجة وأمام امتحان إثبات الذات، بعد أن اكتسح حزب الأصالة والمعاصرة الساحة السياسية واستقطب إليه أعضاء من كل أطياف الأحزاب المغربية.. حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي عرف بصنعته في نحت المصطلحات، أطلق على حزب الأصالة والمعاصرة «الوافد الجديد» في حين ظلت باقي الأحزاب الأخرى تتأمل ما يجري باندهاش كبير. ووحده حزب العدالة والتنمية، الذي استشعر أن «الجرار» يستهدفه بشكل مباشر، شنّ حربا شرسة ضده وضد رموزه، خاصة فؤاد عالي الهمة وإلياس العماري. استمرت «الحرب» بين الحزبين واستعرت على صفحات الجرائد، وبدا أن حزب العدالة والتنمية يخوض معركة البقاء ضد خصم قوي قيل إنه مسنود من الإدارة.. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد تحاشى الاحتكاك بخطوط التماس مع المؤسسة الملكية، فإن تلميحات كثيرة من مثل «حزب صديق الملك» كانت توحي أن القصر هو الذي كان وراء تأسيس الحزب، كما وقع مع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية والتجمع الوطني للأحرار على حد تعبير الإسلاميين.. لكنْ سرعان ما تغيرت المعادلة السياسية وتبعثرت الأوراق، من جديد، إثر نزول شباب حركة 20 فبراير إلى الشارع.. فلأول مرة في تاريخ المغرب ترفع لافتات بأسماء شخصيات نافذة، وكان من بينها قياديون في حزب «الجرار»، ومن ثم توارى الحزب إلى الوراء ودخل المغرب منعطفات تاريخية حاسمة. أفسحت حركة 20 فبراير، التي حققت ما عجزت عنه الأحزاب السياسية لفترة طويلة، المجال أمام إصلاح سياسي جديد جاء في غمرة التحولات التي عرفتها المناطق العربية. بسرعة البرق، خاطب الملك شعبه: «لنا في قدسية ثوابتنا، التي هي محط إجماع وطني، وهي الإسلام كدين للدولة، الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي، الضمان القوي، والأساس المتين لتوافق تاريخي، يشكل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب.. ومن هذا المنطلق المرجعي الثابت، قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية».. كان خطاب 9 مارس لحظة حاسمة في تاريخ حكم محمد السادس، وإذا كان العروي يقر بأن إصلاح المخزن يتسم بالبطء، فإن الأمور هذه المرة تطورت بشكل متسارع، متأثرة بموجات «الربيع العربي»، التي كانت تدق أبواب المغرب، لكنْ بمطالب ليست كالتي رُفِعت في باقي البلدان. تبنى المغرب دستورا جديدا، تقاسم فيه الملك بعض من صلاحياته مع رئيس الحكومة وذهب المغاربة إلى أول انتخابات في ظل الدستور الجديد.. لم يكن أصدق العرافين ولا أشد المتفائلين يتوقع أن يكتسح حزب العدالة والتنمية المشهدَ السياسي بتلك الطريقة التي سمحت لعبد الإله بنكيران بأن «يقتصّ» من أعدائه السياسيين ومن أن يذهب إلى ميدلت مزهوا بانتصار حزبه. في هذا السياق، يؤكد محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض أن تقييم 13 سنة من حكم محمد السادس ينبغي أن ينطلق من أمرين اثنين، يتمثل الأول في الانتكاسة التي وقعت سنة 2002، حينما نصّب الملك حكومة تقنوقراطية في الوقت الذي حصل حزب الاتحاد الاشتراكي على الأغلبية النسبية، مضيفا، في حديث مع «المساء»، أن مسلسل التراجع تزامن مع هذا التاريخ وتكرس بعد ذلك بظهور حزب الأصالة والمعاصرة، الذي خلق نوعا من التشنج بين مكونات المشهد السياسي المغربي. أما الأمر الثاني، في تقدير الغالي، فيتمثل في التطور الجديد الذي عرفه ملف الصحراء، حيث قدّم المغرب مُقترَحاً شكّل انعطافا أساسيا في هذه القضية، معتبرا أن الخطاب الذي ألقاه الملك حول الجهوية الموسعة كان كذلك ميزة وسمت مرحلة حكمه. غير أن العنوان الأبرز لهذه المرحلة، وفق الغالي دائما، هو تبني الدستور الجديد، الذي يُجسّد سابقة في تاريخ الدستورانية المغربية، وهو دستور يطرح مسألة إعادة ترتيب قواعد اللعبة من ناحية الصياغة، أما على مستوى الممارسة فما تزال هناك عدة تعثرات.. تلك كانت حصيلة 13 عشر سنة من حكم الملك محمد السادس، أما الآن فثمة سؤال محوري يشغل بال متتبعي الشأن السياسي المغربي: هل سيكون مصير حزب العدالة والتنمية هو المصير ذاته الذي لقيّه حزب الاتحاد الاشتراكي؟