أبحرنا في الجزء الثاني من هذه الفسحة الرمضانية، و التي هي عبارة عن نبش في ذاكرة الإعلامي المخضرم عبد اللطيف بنيحيى، في رحلة البحث عن "شامة"، والتي من أجلها فقد البحاران ولد عريبة و الكوزي بوصلتهما، بعد أن توقف محرك زورقهما "زهيرو"، لعيشان معا مغامرة بحرية لم يكونا يتوقعان أنهما عائدان منها بسلام. لكن الأقدار الإلهية أتت بحاملة نفط عملاقة، بطاقم بحري مسؤول، أنقذتهما دون زورقهما. وعرفنا كيف تعامل عبد اللطيف بنيحيى مع قصاصة وكالة المغرب العربي للأنباء، وخرج باحثا رفقة زميله التقني المرحوم الحاج السعيدي عن خيط يوصله إلى المغامرين أو أحد معارفهما، لكشف خيوط هذه الرحلة وتفاصيلها. ووقفنا خلال سرد البحار الكوزي - أحد البحارين - على تجاهل نداء ربان حاملة النفط النرويجية من قبل السلطات المينائية بميناء طنجة، حيث ظلت الباخرة متوقفة قبالة جبل طارق في انتظار من يأتي لتسلم البحارين المغربيين الذين سبق لوسائل الإعلام أن نشرت خبر فقدانهما في عرض الساحل دون أن يأتي أحد، لتكمل طريقها والبحارين على متنها في اتجاه ميناء نابولي الإيطالي. عند وصولها إلى ميناء نابولي – يحكي عبد اللطيف بنيحيى – بعد ثلاثة أيام من الإبحار انطلاقا من جبل طارق، أخبر ربان الباخرة المسؤولين عن الميناء الإيطالي بوجود بحارين مغربيين على متنها، بعد أن تم إنقاذهما في عرض الساحل المتوسطي. لكن السلطات المينائية لنابولي رفضت السماح لها بالرسو بمينائها، بسبب انشغالها بحادث اختطاف السفينة السياحية الإيطالية " أكيلي لاورو" من طرف مسلحين فلسطينيين، وهو حادث شهير، تزامن مع هذه الفترة التي نتحدث عنها، وكان قد أحدث ضجة كبرى، وانتهى كما هو معروف بعد مفاوضات عسيرة بتسليم الباخرة بمن فيها من رهائن إلى السلطات المصرية بميناء بور سعيد، والتي بدورها تكلفت بنقل الخاطفين الفلسطينيين على متن طائرة تابعة لخطوطها إلى منظمة التحرير الفلسطينية بتونس، قبل أن تعترضها مقاتلتان أمريكيتان، وتجبرانها على تغيير مسارها إلى مطار سيكونيلا بالقاعدة الجوية التابعة لحلف الناتو في جزيرة صقلية. هنا نلمس روح المسؤولية التي أبان عنها ربان حاملة النفط النرويجية، والذي تحمل مسؤولية إنقاذ البحارين المغربيين، وإيصالهما إلى بر الأمان، مهما كلفه ذلك من تغيير لخط إبحار باخرته، أو تأخر في وصولها إلى وجهتها الرئيسية، وبالتالي إيصال البضاعة إلى أصحابها في وقت متفق عليه، ومقرون بغرامة على كل يوم تأخير. عكس ما سمعناه من كلام الكوزي عن تجاهل السلطات بميناء طنجة لقضيتهما، و التي كان بإمكانها إنهاء المغامرة هناك قرب جبل طارق، بعد ساعات فقط من إنقاذهما. اضطرت الباخرة بعد هذا الرفض الذي تلقته من سلطات نابولي إلى التوجه مباشرة نحو ميناء بور سعيد المصري، وقضاء ثلاثة أيام أخرى في الإبحار، ليجد ولد عريبة والكوزي في استقبالهما طاقما من الصحفيين، بعد انتشار خبرهما، وموعد وصول الباخرة التي انقذتهما وتقلهما على متنها...ومن طرائف هذا الستقبال الصحفي الكبير، يقول الكوزي: "صعد الصحفيون الباخرة، وبدأوا يلتقطون لنا الصور ويسألوننا ويأخذون أغراضنا. بعضهم دخل حمامنا وأخذ قطع الصابون التي كنا نستحم بها، وآخرون أخذوا سجائرنا وكأننا صرنا نجوما يتهافت المعجبون على أغراضهم ليتباهوا بها...شْلْطُونَا أ خَاي عبد اللطيف". وأفتخر أنني لا زلت أحتفظ بهذه الوثيقة القيمة إلى الآن. بعد ذلك وصلت سيارة السفارة بها سائق وأحد الموظفين لاستقبال البحارين، واصطحابهما إلى القاهرة، وإنزالهما في فندق وسط المدينة. وأظن أن التازي هو من كان يقوم مقام سفير المملكة المغربية بالقاهرة آنذاك، حيث استقبلهما في اليوم الموالي لوصولهما، وتناولا معه وجبة الإفطار، واستمع إلى قصتهما الغريبة، قبل أن يدعوهما إلى قضاء فترة بمصر للتعرف عليها، وزيارة معالمها التاريخية، والترويح عن نفسيهما...، حتى تتمكن السفارة من إنجاز وثيقتين لهما لكي يعودا إلى أرض الوطن عبر مطار الدارالبيضاء، بعد أن تأكدت عائلتيهما أنهما توفيا في عرض البحر ولن يعودا أبدا. ومن مطار محمد الخامس، إلى محطة الساتيام، ثم إلى طنجة مباشرة. توقفت الحافلة التي تقلهما بالمحطة التي كانت بمحاذاة بوابة الميناء - ميناء طنجةالمدينة – وهناك حدث أمر غاية في الغرابة. الكوزي الذي كان رجلا عجوزا، بعينين خضراوين، وبنية جسمانية ضخمة، قرر التوجه إلى عائلته بعد نزولهما من الحافلة مباشرة و دون انتظار، قائلا: "اليوم ولدت من جديد". فيحين أصر ولد عريبة على الدخول إلى الميناء لتفقذ زورقه الذي تركه في عرض الساحل المتوسطي، أمام اندهاش صديقه الذي حاول ثنيه عن ذلك، مؤكدا أن الزورق ضاع في البحر، وعليه تقبل الأمر، والخْلِيفَة على الله. وهكذا افترق الإثنين، الكوزي في اتجاه حي بن ديبان، وولد عريبة إلى مرسى الزوارق بميناء الصيد، ليجد المفاجأة في انتظاره، زْهِيرو راسيا بمكانه، وكأنه تركه بالأمس هناك. طبعا اختلط عليه الفرح بالدهشة والاستغراب، وصار يسأل عن كيفية عودة زورقه إلى مرساه، فعلم أن أجنبيا مشتركا في نادي الزوارق الشراعية انطلق بزورقه متجها إلى مالقة، وفي طريق إبحاره صادف زورقا فارغا في عرض البحر، فقرر أن يعيده إلى ميناء طنجة، لمعرفة إن كان صاحبه قد فقذه أو فُقذ هو بنفسه. كانت هذه من أغرب الحكايات التي أنجزت حولها برنامجا رمضانيا على الإطلاق، ما زلت أفتخر به، وبالوثيقة التي سجلناها مع هذين البحارين وهي موجودة بخزانة إذاعة طنجة. وبما أن الزورق العجيب كان اسمه زْهِيرو، فخلال عملية المونتاج، لم أجد أغنية تناسب هذه القصة لأدرجها بين لحظات حكي البحارين غير أغنية " أللا زهيرو عاوديلي واش جرى ليك " لعبد الحميد الزاهر. * إلى اللقاء في الجزء الرابع: بنيحيى وشكري في رمضان