الحديث يطول عن رمضان، وإذاعة طنجة، والبرامج التي كنا ننجزها، وجو العمل الخاص بهذا الشهر الكريم الذي كان يعرف مدا وجزرا حسب مزاج العاملين والمسؤولين. وكثيرة هي ذكرياتي المرتبطة بهذا الموضوع والتي سنحكي بعضا منها في إطار هذا الجرد الذي نقوم به في هذه الفسحة، التي أتمنى أن يستمتع بها القراء الكرام. كما قلت سالفا، فالبرامج الرمضانية كانت تتنوع بين الفرح والحزن والألم. وكم كنا نتفاعل مع كثير منها، إلى درجة أننا كنا ننسى ظروف ومناخ اشتغالنا، بحث لم نكن نبالي بحرارة الجو صيفا، ونحن نخرج إلى الميدان لإنجاز البرامج التي لم تكن تقف عن باب الاستودوهات، أو منحصرة على ضيوفها داخل جدرانها الأربعة فقط. وهنا سأعود معكم بذاكرتي إلى صيف 1985، حين توصلنا بخبر قصير عبر قصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء يقول بالحرف: "تم وصول بحارين مغربيين إلى ميناء بور سعيد المصري، بعد مغامرة بحرية في المياه الإقليمية لطنجة بالمملكة المغربية"، كانت هذه القصاصة كافية لدفعي إلى القيام ببحث جاد وشاق عن خيوط هذه المغامرة وبطليها، لمعرفة أطوارها، والكشف عن تفاصيلها. وكانت من أغرب اللحظات التي أنجزت فيها برنامجا رمضانيا مازلت أفتخر لحد الآن، كوني بمعية العربي السعيدي رحمة الله عليه، طفنا وتجولنا في ميناء طنجة، وسألنا السلطات الأمنية والجمركية..، والكل كان يجهل مصير البحارين، لولا الصدفة التي جعلتني ألتقي بشخص يرتدي سروالا بلديا، ويضع حزاما غليظا على خاصرته، وعلى رأسه رَزّة صفراء، ولحية طويلة، فسألني: عن من تبحث؟. أجبته: أسأل عن ولد عْرِيْبَة وصديقة الكوزي. فقال: قيل أنهما كانا بمصر، وقد عادا بالأمس إلى المغرب، وهما الآن هنا بطنجة حسب ما يروج من أخبار. فطلبت منه أن يمدني بعنوان أحدهما لكي ألتقي به، وأعرف منه ما نحن بصدد الكشف عنه من أسرار هذه المغامرة، وفعلا تسلمت منه عنوان ولد عْرِيْبَة والذي لا زلت أتذكره جيدا " زنقة ودراس، دار البارود". توجهنا بعدها مباشرة إلى ساحة دار البارود، ومنها إلى الزنقة المقصودة. سألنا عن البيت فَدُلنا عليه، وطبعاً لم يتطلب الأمر منا عناء البحث، حيث كان سكان الحي يُعَدّون على رؤوس الأصابع، وهم من أبنائه الذين تربوا فيه، ويعرفون بعضهم البعض. طرقنا الباب، فإذا بسيدة في عقدها الثالث تفتح لنا لنسألها عن الشخص المطلوب، فأخبرتنا أنه فعلا وصل صباحا إلى البيت، وأنه متعب كثيرا، وقد خلد إلى النوم. رجوتاها كي توقظه، فلا مجال للإنتظار، لأن هناك الآلاف من المستمعين الذين ينتظرون منا أخباره وصاحبه، وتفاصيل مغامرتهما. لم تتردد السيدة في الدخول وإيقاظ ولد عَرِيْبَة، الذي لا زلت أتخيله نازلا إلينا بقامته الطويلة، ولحية كثيفة على وجهه. قدمت له نفسي وأنني من إذاعة طنجة، وبعد حمد الله والثناء عليه على نجاتهما وسلامة وصولهما إلى بلديهما، أخبرته أنني أريد أن أنجز معه لقاءاً إذاعيا حول ما حدث لهما بعد خروجهما من ميناء طنجة للصيد..فرفض أن يتكلم معي في غياب صاحبه ورفيقه في الرحلة، وما كان علينا إلا أن نحمله معنا على متن سيارة " رونو 4" التابعة للإذاعة، وتوجهنا إلى دْشَرْ بْنْ دِيبَانْ، حيث استقبلنا الكَوْزي بعينين خضروين داخل بيت أنيق، لننطلق في تسجيل تفاصيل مغامرة كانت الأغرب على الإطلاق، بتفاصيل الأليمة، ومفاجآتها الصادمة، وطرائفها العجيبة أيضاً. وبدأ الكوزي يحكي: المغارمرة بدأت عندما قررت أنا وصديقي ولد عْرِيبَة أن نركب، البحر لنقوم بصيد نوع من السمك يطلق عليه هنا في طنجة إسم شٓامٓة، والذي لا يمكن أن يتمكن الصياد منه إلا في الصباح الباكر قبل الفجر، فكان علينا أن نسجل خروجنا رفقة زورقنا الذي كنا نسميه " زهيرو" قُبٓيْل الإفطار، وأقلعا من ميناء طنجة في اتجاه مكان قبالة شاطئ سيدي قاسم. وبعد آذان المغرب، تناولنا ما تيسر من الحريرة والثمر والشباكية كعادتنا، لكن عندما أردنا التحرك إلى المصيد الذي كنا نقصده في خرجتنا تلك، تفاجأنا بعطب مهول قد أصاب المحرك، ولم نتمكن من تشغيله إلا بصعوبة قصوى. بعدها انطلقنا نقطع مسافات دون أن ندري في أية وجهة نبحر، بما أننا لم نكن نحمل معنا بوصلة تُوَجِّهنا، فوجدنا أنفسنا في متاهات لم نكن نعلم إلى أين تحملنا، وبقينا على حالنا إلى أن نفذ خزان البنزين، وتوقف المحرك نهائيا عن الإشتغال، وصرنا ننتظر رحمة من الله تنجينا من موت محقق. بحيث لم تنفعنا كل محاولات الاستنجاد التي قمنا بها، ومنها إشعال مصباح زيتي ليلا حتى ترانا البواخر التي كانت تمر بالقرب منا، والتي لم تتوقف رغم تلويحنا لها. فبقينا على حالنا ذاك ثلاثة أيام بكاملها مشردين في البحر، حتى ظننا أننا لن نعود إلى بيوتنا أبدا، وأن مصيرنا الموت لاشك، بعد أن صرنا لا نتستطيع حتى تحريك أطرافنا، واستسلمنا لمصيرنا المحتوم، متمددين على الزورق في انتظارة خروج الروح، أو معجزة من رب السماء. في نهاية اليوم الثالث -يتابع الكَوْزِي- مرت بمحاذاتنا ناقلة نفط عملاقة نرويجية، فرفعت يدي بصعوبة ملوحا إليها، وما كنت أظن أن ربانها سوف يقطع مسافة غير هينة، ليقوم بتغيير وجهتها، والعودة بها في اتجاهنا، حيث عمل بعض بحارتها على مساعدتنا في تسلق السلالم، والوصول إلى سطحها، وبالتالي انقاذنا من الهلاك بعدما تعذر عليهم رفع مركبنا. وكم أحسسنا بتقديرهم للمسؤلية، واحترامهم لقانون البحر الذي جعلهم يتوقفون عن مسيرهم لإنقاذنا، حتى أنهم أرغموا ولد عْرِيْبَة على الركوب معهم، بعدما امتنع وتشبث بإنقاذ زورقه زْهِيرُو" والذي كان مصدر قوته وعياله. عكس بعض البواخر التي تجاهلتنا طيلة الأيام التي قضيناها في البحر ضائعين. صرنا إذا تحت إمرة ربان الباخرة النرويجية، والتي عملت على حملنا إلى بر الأمان، وتسليمنا إلى السلطات المغربية، بعدما توقفت بمحاذاة جبل طارق، واتصلت بالسلطات المينائية لطنجة، لتخبرهم بأنها أنقذت بحارين مغربيين، وتنتظر قدوم من يتسلمهما، لكن الباخرة ظلت تنتظر لأزيد من نصف اليوم دون رد من أحد، ليخبرنا طاقمها أن لا أحد اهتم لأمرنا، أو ربما صرنا غير مرغوب فينا في ببلادنا، لنضطر إلى إكمال المسيرة معهم إلى وجهتهم التي كانت ميناء نابولي الإيطالي، ونحن في صدمة من لامبالات مسؤلينا بميناء طنجة. ألهذا الحد صرنا لم يختلف الأمر بميناء نابولي عن غيره بميناء طنجة كثيرا، * إعلامي بإذاعة طنجة الجهوية