يصعب القفز عما كان للحوليات الفرنسية من فضل فيما حصل من تجديد لتاريخ الأوبئة ولِما هو آفات طبيعية وبشرية من قِبل باحثين ومؤرخين،من خلال ما كانت عليه هذه المدرسة من أعمالعلمية وإسهامات. فضلاً عنالديمغرافيا التاريخية أيضاً عبر نتائجها خلالسنوات الخمسينات والستينات من القرن الماضي، اضافة لِما حصل حول الأوبئة من علاقة بالانتروبولوجيا التاريخية وبخاصة ما نشره “ميشيل فوكو” في هذا الاطار. ويبقى انفتاح البحث التاريخي والباحثين على زمن المجتمعات الاجتماعي أمرأ هاما، من خلال تناول قضايا اجتماعية ومقاربتها من زوايا مختلفة. ولعل لكل هذا وذاك علاقة بالديمغرافيا التاريخية التي بقدر ما وفرت معطيات كمية بشرية لفائدة مؤرخين، بقدر ما سمحت بوصف هياكل ديمغرافية والتعرف على ردود فعل تجاه وضعيات وسلوكيات خفية جعلتها أداة ضرورية لمعرفة ما ينعت بالنفسية التاريخية. ويمكن القول علاقة بالأوبئة أن الحوليات الفرنسية كانت بدور مهم في الدفع باتجاهها وباتجاه مكوناتها، وبالتالي بروز تاريخ اجتماعي ومن ثمة تاريخ أوبئة قبل نصف قرن، لِما أقدم عليه مؤسسوها من نقاشات شملت تخصصات مجاورة في أفق توحيد العلوم الانسانية. فبإشراكهم في ورشهمورهانهم التاريخي لمتخصصين في توجهات معرفية جمعت بين جغرافيا وسسيولوجيا واقتصاد وسياسة، كانوا وراء ما حصل من قطيعة مع مدارس تاريخية اختفى على اثرها تاريخ تقليدي قام على نخب ووقائع ومؤسسات، ليبرز مقابله تاريخ اجتماعي اهتم بكتل وهوامش ومن هنا ما حصل من دراسة لأحوال اجتماعية كما بالنسبة للأوبئة وغيرها. وحول تاريخ الأوبئة الذي انتهت اليه جهود الحوليات الفرنسية في اطار ورش التاريخ الاجتماعي، من أوبئة مغرب القرن التاسع عشر التيتسربت عبر مراسيهالشمالية نجد طاعون 1818- 1820،وكان أقل وتدميراً ونزيفاً مقارنة بطاعون 1799-1800 رغم أنه عَمَّر لفترة أطول من هذا الأخير. وتسجل الأبحاث أن وباء فترة نهاية عشرينات القرن التاسع عشر هذا، انحصر في بدايته بشمال البلاد وشرقها مخلفاً حوالي ألفي ضحية بطنجة لوحدها خلال سنة 1818، لدرجة حديث على أنه أتى خلال مدة تفشيه على خمس ساكنة هذه المدينة. وبجوار طنجة بشمال البلاد دائما،بلغ عدد وفيات مدينة تطوان يومياً بسبب طاعون 1818 حوالي عشرين حالة،ليبلغ دروته في ربيع 1919 بحيث قدرعدد الوفيات بالمئات خلال شهر مارس من السنة نفسها. وضع رهيب جعل وكيل الصحة البريطاني بطنجة يقول بعد انتقال الوباء الى داخل البلاد، أن الناس بفاس كانوا منهمكين في دفن موتاهم من طلوع الشمس الى غروبها. وفي هذا الاطار ورد أن فاسكانت تفقد خلال أبريلمن الفترة نفسها حوالي أربعمائة ضحية يومياً، وأن الوباء لم يظهربغرب البلاد جنوب أبي رقراق إلا في نهاية هذه السنة، قبل أن يصل مراكش التي بلغ عدد وفياتها خلال فبراير 1820 حوالي المائتين يومياً، ما ارتفع في شهر أبريل الى حوالي تسعمائة قتيل مسجلاً بذلك رقماً قياسياً. وبما أن الوفيات تنشط بسبب المجاعة وتتواصل بفعل أوبئة تنقض على الناس بعد اصابتهم بالهزال، فإن ما ميز طاعون 1818- 1820كونه جاء بعد جفاف لمدة سنتين جعل وضع البلاد الاجتماعي والاقتصادي أكثر حدة، بخلاف طاعون 1799- 1800 الذي لم يصحبه خصاص في الأقوات ولم يفقد فيه المخزن موارد جبايته. وبقدر ما كان من وقع وتأثير وآثار مادية ونفسية معبرة لطاعون 1820 على مخزن مولاي سليمان، بقدر ما نظر الناس لِما أصاب البلاد والعباد من وباء معتبرين اياه عقاباً إلاهياً. وكان تسربوباء 1818- 1820 للمغرب انطلاقاً من الشمال، اثر قدوم ولدي مولاي سليمان من الحج ونزولهما بطنجة عبر مركب حملهما رفقة حجاج وتجار من الاسكندرية،بحيث تفشىالوباء في طنجة 1818 رغم كل جهود الوقاية قبل انتقاله الى فاس ومكناس وباقي جهات البلاد. فحول ظهور الوباء بطنجة أورد صاحب”الجيش العرمرم”:” وفي هذا العام قدم ولدا السلطان (مولاي سليمان) من حجهما ونزلا بمرسى طنجة، وكان السلطان وجه لهما مركباً من مراكب الانجليز تحملهما من الاسكندرية مع كل ما تعلق بهما من اصحابهما وخدامهما والتجار الموجهين معهما. ولما نزلا بطنجة ظهر الوباء مصحوبا مع من معهما، ثم شاع في المغرب خصوصا تلك السواحل ثم في جميع الحواضر والبوادي الى آخر أربعة وثلاثين ومائتين وألف.”أما صاحب “الاستقصا” فقد أورد حول تفشي الوباء بالبلاد قائلاً:”ولما نزلوا بطنجة (يقصد ولدي مولاي سليمان)، حدث الوباء ومنها شاع في الحواضر والبوادي الى أن بلغ فاساً ومكناسة في بقية العام. ولما دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف شاع الوباء وكثر في بلاد الغرب..ثم زاد الأمر وتفاحش حتى أصاب الناس منه أمر عظيم.” وحول الوباءوما كانت عليه هذه الفترة من تدابير وقاية،من المفيد الوقوف على موقع بذاكرة ذات صلة،يتعلق الأمر بجزيرة مقابلة لمدينة الصويرة عرفت بجزيرة الحجر الصحي زمن أوبئة القرن التاسع عشر. جزيرة بحسب ما تذكره الرواية كانت تحتوي منذ فترة السلطان محمد بن عبد الله، على مدافع تمت إزالتها من قِبل الفرنسيين سنة1844 لَمَّا أجبرت القوى الأروبيةالمغربوألزمته بإخضاع حجاجه العائدين للحجر الصحي. هكذا تحولت الجزيرة الى مكان حجر صحي كان ينزل فيه حجاج عائدون من مكة،فعندما كانت لا تسجل أية حالة وفاة على مثن سفينتهم أثناء العبورولا أية حالة وباء،فقد كان يسمح للسفينة بالرسو على البر ونزولهم واستقبالهم من قبل ذويهم مع ما كان يحصل من حفل وغناء، واذا حصل تسجيل ضرر بسبب وباء ما على مثن السفينة، فقد كان الحجاج يخضعون لحجر صحي بهذه الجزيرة لمدة أسبوعين. إن الحديث عن أوبئة مغرب القرن التاسع عشر كما بالنسبة لوباء 1818- 1828، هو استحضار لمحطات من زمن بلادنا الاجتماعي، وما الأوبئة وما تعرضت لهبلادنا من آفات عبر دورات سوى قضايا ظلت مغمورة لفترة طويلة، علما أنها من مكونات زمننا المحورية لفهم ماضينا. ولعل ورش تاريخنا الاجتماعي لايزال بدون التفات وانصات علمي رزين كاف، من شأنه توسيع وعاء تراكمات في هذا المجال وجعل خزانتنا التاريخية بما يفيد من نصوص.فالأعمال العلمية التاريخية في هذا البابتبقى محسوبة على رؤوس أصابع، وفي مقدمتها ما أسهم به كل من محمد الأمين البزاز والحسين بولقطيب رحمهما الله كذا تريكي وبوجمعة رويان.. أيضاً. والى جانب قضايا عامة من تاريخنا وتاريخ أزماتنا الاجتماعيةتحديداً،كما بالنسبة للأوبئة وما تعرضت له بلادنا من آفات في دورات على امتداد قرون. يبقى من المهم معاً انفتاح البحث والباحثين على تاريخ القرب لرصد مت كان بأثر على البلاد والعباد من ظواهر وأزمات، لِما خلفته هنا وهناك بمدن وبواديمغربية من نزيف وآثار نفسية وسلوكات وردود فعل لا يعرف عنهاإلا القليل من نتف واشارات. وفي هذا الاطار ولجعل ورش القرب في البحث التاريخي حقيقة،ومن خلاله بلوغ رهان تاريخ شامل لبلادناعلى مستوى قضايا ومحاور كبرى، لابد من تحفيز عمل البحث التاريخي في بعده المحلي وسياقه المنوغرافي، وتثمينكل ما من شأنه من الجهد والأعمال البحثية المحلية، بلوغ قيمة مضافة عبر تنقيب وتوثيق وتحليلعلماً أنه ليس هناك تاريخ إلا التاريخ الاقليمي وفق رأي “ميشيل فوكو”. باحث في تاريخ المغرب