في السنة الماضية قتل مرض التهاب السحايا العديد من المغاربة، أتى عليهم الوباء القاتل، لكن مهما بلغ عدد ضحايا "المينانجيت"، فإن ذلك لا يقارن بما فعله مرض الطاعون الذي التهم أجساد الآلاف من المغاربة، منذ أزيد من قرن.. الطاعون لم يكن مجرد وباء، بل رعبا قض مضاجع الرعية والسلطان. نحن الآن في مغرب نهاية القرن الثامن عشر وبالضبط سنة 1798، حين خيم شبح الموت لمدة سنتين على مدنه وقراه، وغيب الآباء والأبناء والأمهات، ولم يمهلهم فرصة للوداع أو لكتابة وصاياهم، لم يستأذن، ولم يفرق بين امرأة أو طفل أو كهل، لقد اجتاح البلاد والعباد، دون رحمة. اللعنة حين زار وباء الطاعون المغرب، فرق بين الناس، واختلف تعامل المغاربة مع الوباء كل حسب وعيه، فئة رأت في الطاعون غضب الله على عباده الكفار الظالمين، الذي يعيثون في الأرض فسادا، على غرار ما وقع لقوم فرعون حين دعا عليهم موسى بالجراد، والقمل والضفادع والدم والطاعون، جزاء لهم على طغيانهم، فئة ثانية اعتبرته اختبارا لإيمان الصالحين من العباد على تحمل البلاء، وصبرهم على الشدائد والمصائب ومن ثمة وجب، في اعتقادهم، معالجة الوباء بالتوجه إلى المساجد وترديد اللطيف والإكثار من الصلاة. فيما توجهت فئة ثالثة إلى الاعتقاد بأن الطاعون، طعن من الجان، يلم بصاحبه انتقاما منه على إتيان فعل مشين، هؤلاء اعتبروا أن أنجع وسيلة لمحاربته هي الرقية و"الحجابات"، فضلا عن استعمال الوصفات الشعبية، المكونة من ضماضات تصنع من زيت الزيتون. ولكن ما كان يجمع المغاربة هو سيطرة حالة الرعب عليهم، فكانوا يفرون تجاه مدن أخرى، فيما كان يتم إغلاق أبواب المدن في وجوههم، خوفا من تفاقم العدوى. وبالمقابل كانت الأوقاف تحاول احتواء الكارثة بتوفير المأكل والملبس للفارين. الرعب القادم من الشرق ظهر الطاعون في أوربا والشرق الأوسط عام 1347، مخلفا خلال خمس سنوات فقط حوالي 24 مليون قتيل في أوربا، وقضى على أكثر من ربع السكان في الشرق الأوسط، فلجأ الأوربيون إلى تتبع نظام الحجر الصحي الذي ساعد على محاصرة الوباء، لكن ذلك تأخر في الشرق الأوسط حتى أوائل القرن التاسع عشر. فعاد الوباء للظهور بمدينة الإسكندرية سنة 1783 ، ثم انتقل إلى تونس عن طريق وفود الحجاج والتجار القادمين من الشرق، قبل أن تجتاح العدوى الجزائر، في حين نجا المغرب من انتقال الوباء إليه سنة 1787، حين رست سفينة موبوءة في ميناء طنجة، وعلى متنها حجاج مغاربة مصابون بهذا الطاعون، فطبق الحجر الصحي الذي كان يسمى آنذاك '' الكارنتينا ''، إذ كان يتم نقل المشتبه في إصابتهم بالوباء إلى جزيرة مدينة الصويرة، وحجزهم ومراقبتهم هناك لمدة أربعين يوما حتى يتبين عدم إصابتهم، ف''يطلق سراحهم''، ومن هنا جاء اسم ''الكارنتينا''. غير أن صيف سنة 1793 سيبين عدم صمود استراتيجية ''الكارنتينا'' أمام الطاعون، الذي حمله الحجاج عبر الطريق القاري الشرقي بتلمسان، ثم انتشر إثر ذلك في نواحي مليلية وقبائل الريف، وبعدها بنواحي فاس ليكتسح المغرب، مخلفا آثارا ديموغرافية ضخمة. الاجتياح كان الطاعون أثناء اجتياحه للمغرب تفشى لمدة سنتين، وكان يختفي بعدها عشر إلى خمس عشرة سنة ليعود للظهور، وهذا يدل على أن المغرب شهد توالي موجات الطاعون، فكان أن اجتاح البلاد عن طريق ميناء طنجة هذه المرة، إذ تتحدث المصادر عن سفينة رست بميناء طنجة، وعلى متنها أميران قدما من مكة، سمحت لهما سلطات الحجر الصحي بدخول المغرب لمكانتهما، في الوقت الذي كانت سفينتهما حاملة للجرثومة الأولى لوباء الطاعون، وكان الخدم أول من أصيب به فماتوا فورا، لينتشر بعدها الوباء في شمال المغرب، وعرف حينها بطاعون طنجة وقد اختفى سنة1820. لكن أحلك فترة سيعاني فيها المغاربة من الداء الأسود، كانت في الفترة ما بين 1799و 1801، إذ تتحدث مصادر تاريخية على لسان المؤرخ عبد السلام بن سليمان الفشتالي عن سقوط 2500 ميت يوميا، وفقدت مدن نصف سكانها أو أكثر، ففي فاس ذكر أحد أفراد السفارة البريطانية، أن أثمنة المواد الغذائية ارتفعت بشكل مهول، نظرا لوفاة التجار والحرفيين، ويشير الدبلوماسي الإنجليزي إلى حادثة طريفة، إذ أراد المولى سليمان سلطان المملكة الشريفة آنذاك تسليمه رسالة إلى ملك بريطانيا فلم يجد من يزخرفها. المولى سليمان ستنطبق على عصره مقولة "رب ضارة نافعة"، إذ سيأتي الطاعون الكبير على ألد خصومه، وهما أخواه مولاي هشام ومولاي الحسين، اللذين نازعاه الحكم بمراكش، ثم القياد بناصر والهاشمي بن العروسي وآخرين، كما أنه أضعف القبائل المتمردة، وعلق القنصل البريطاني في سنة 1801 " إن المولى سليمان متمكن من البلاد والخسائر البشرية التي ألحقها الطاعون بالساحل تجعل كل تمرد على سلطته أمرا مستحيلا". الطاعون أيضا ساهم في إيجاد الكثير من الحلول للمشاكل المالية التي عرفها عهد المولى سليمان، فأملاك المنقطعين (الأشخاص الذين يموتون وليس لهم ورثة)، أصبحت بحكم الشريعة ملكا لبيت مال المسلمين، إذ ذكر الزياني أنه في جهة سوس وحدها لم يستطع جباة المخزن جمع أموال المنقطعين، وهو ما أورده المؤرخ محمد المنصور في بحث حول المولى سليمان نشر بموسوعة التراث المغربي. أما التأثيرات السلبية للطاعون على دار المخزن، فكان أهمها وفاة أخ السلطان مولاي الطيب ووزيره محمد بن عثمان المكناسي، والكثير من الرجال الذين تكونوا على عهد مولاي محمد بن عبد الله، وترتبت على ذلك صعوبة كبيرة في تعامل القناصل والسفراء مع المملكة الشريفة الخارجة لتوها من وباء فتاك. ظل هذا المرض يزور المغرب ويغادره بين فينة وأخرى، إلى أن اختفى نهائيا أو عوضته أمراض أخرى. في اتصال أجرته معه "هسبريس"، يعزو عبد الفتاح شكيب طبيب متخصص في الأوبئة والأمراض التعفنية، أسباب تراجع الوباء إلى "تراجع الحروب، وتقدم الطب، واكتشاف الجرثومة الناقلة للوباء والقضاء عليها، ساعد في ذلك اكتشاف المضادات الحيوية. كما ساهم الوعي بأهمية النظافة وانتشار وسائلها إلى ضمور الطاعون، إلى إن توقف نهائيا في عصرنا الحالي، ولم يتم رصد أي حالة لهذا الوباء، ويضيف البروفيسور شكيب أن انحسار الطاعون لا يعني اختفاء أوبئة شبيهة، بل وجب التصدي لها عن طريق تكوين أطباء مختصين في الأوبئة، إذ لم يكن المغرب يتوفر إلا على 18 طبيبا متخصصا في الأمراض المعدية والتعفنية. " ملك الموت في كتابه "الأوبئة والمجاعات في المغرب خلال القرن 19 م"، يتحدث محمد الأمين البزاز" عن الآثار الاجتماعية والإنسانية الوخيمة للطاعون راسما صورة قاتمة عن مغرب الطاعون، فكتب يقول "وللتخلص من الجثث المتعفنة، فقد كان يتم إلقاؤها في حفرة كبيرة وتترك في العراء، فتنهشها الكلاب والكواسر، فعم الاستسلام واليأس أمام شبح الفناء." وتحدث المؤرخون الأجانب الذين زاروا المغرب في تلك الفترة عن أرقام مهولة لمن قضوا بسبب الطاعون، فذكروا أن بعض القرى كانت تضم 800 شخص لم يسلم منهم سوى 4 أفراد، وأخرى لم يبق فيها على قيد الحياة سوى 7 أشخاص من مجموع 500 نسمة. الباحث والمؤرخ عبد المجيد القدوري عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، صرح ل"هسبريس"، أن الطاعون الذي أصاب مغرب القرن التاسع عشر وباء من ثلاثة أنواع، أشدها فتكا الطاعون الأسود الذي بدأ في آسيا، ثم انتقل إلى بقية العالم، وأدى إلى نزيف ديموغرافي حاد، وكان لا يمهل صاحبه أكثر من 24 ساعة، ويضيف القدوري أن انعدام التطبيب في تلك الفترة كان يعد أهم أسباب استفحاله. لم يسلم الجنود الفرنسيون من الإصابة بالطاعون إبان عهد الحماية، مما اضطر فرنسا إلى استدعاء أطبائها للتكفل بعلاج المصابين، وقد شكل ذلك تغييرا في السياسة الطبية في العهد الاستعماري، فبدأت تتميز بنوع من العقلنة واعتماد العلم . وشيئا فشيئا تراجعت الأوبئة التي عرفها المغرب كالحمى الصفراء والكوليرا والطاعون، فانحسرت نهائيا مع النصف الأول من القرن العشرين. يضيف عبد المجيد القدوري ل"هسبريس". إذا كان الطاعون بأشكاله الثلاثة قد توقف زحفه في المغرب وفي العالم، فإن أوبئة أخرى قد شقت طريقها بثبات نحو القضاء على الجنس البشري بدءا من السيدا والسرطان وانفلونزا الطيور والخنازير، وسارس والسل لكن الأخطر من ذلك أمراض يصنعها الإنسان في المختبرات فتكون أشد وحشية ودمارا. تختلف الأسماء والوباء واحد أسماء غريبة كان يطلقها المغاربة على وباء الطاعون تبرز حيرتهم وعجزهم تجاهه، إذ كانوا يطلقون عليه اسم ''بوكبار '' بسبب العدد الكبير من الوفيات التي يخلفها، أو ''بوزرواطة'' وهي تسمية مرتبطة بالخصوص بالطاعون الدملي، لأن الدماميل التي كانت تظهر على جسم المصابين كانت على شكل عصي صغيرة. وقد ظل الضعف والعجز والخوف الذي نتج بسبب توالي الأوبئة في المغرب خصوصا الطاعون، راسخا في الذاكرة الشفهية للمغاربة، فيحدث أن تسمع بعض النسوة يتحدثن عن "بوكبار" و"بوخبزة" و"بوزريويطة" يقصدن بذلك الطاعون، فيما تقشعر أبدانهن عندما يتحدثن عن ''السالمة''، ويحمدن الله على انحسارها دون أن يدرين أن '' السالمة'' هي '' المينانجيت ''.