حوار مع سعيد الحاجي، أستاذ التاريخ المعاصر، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. ما هي أبرز الأوبئة والأمراض الفتاكة التي مرت على المغرب عبر التاريخ؟ للمغرب تاريخ طويل من الصراع ضد الأوبئة، خصوصا تلك التي كانت تكتسي طابعا عالميا، فبحكم موقعه الجغرافي المنفتح على واجهتين بحريتين، وامتداده البري جنوبا وشرقا في اتجاه إفريقيا، فقد كان معرضا لانتقال الأوبئة عبر وسائل مختلفة، سواء عبر سفن نقل البضائع أو الأشخاص، أو عبر القوافل التجارية التي كانت تدخل المغرب من الجنوب والشرق. برجوعنا إلى القرن ال18، على سبيل المثال، فقد عرف المغرب تفشي وباء الطاعون بين سنتي 1742-1744، وتشير المصادر التاريخية إلى أن مصدر هذا الوباء هو الحدود الشرقية للمغرب، حيث حملت إحدى القوافل التجارية الآتية من الشرق عبر وجدة هذا الوباء، خصوصا أن الفترة السابقة على هذا التاريخ عرفات موجات قوية من الطاعون في كل من مصر وتونس والجزائر، إلا أن المغرب ظل في منأى عنها، لكن سنة 1742 ستعرف تفشي الوباء الذي دام سنتين وحصد آلاف الأرواح. سيعاود وباء الطاعون اجتياح المغرب بين سنتي 1747 و1750، حيث ارتفعت الوفيات بشكل مهول في صفوف المغاربة، خاصة أن مجموعة من العوامل أسهمت في تفشيه، بينها الجفاف وسوء التغذية والأحوال السياسية المضطربة. وما يسجل في هذا الصدد حول أسباب تفشي الوباء، تحركات آلاف الجنود في إطار ما عرف ب«الحركات». وتسجل المصادر أن رحلة سيدي محمد بن السلطان المولى عبد لله، من مراكش إلى فاس سنة 1750 لتجديد البيعة لأبيه بعد فراره من تمرد العبيد، كانت رفقة حوالي 4000 جندي، أسهموا بشكل كبير في تفشي الوباء في كل المناطق التي مروا منها، وهو ما أسفر عن حوالي 300 إلى 400 قتيل يوميا بالوباء في مدينة فاس وحدها دون بقية المناطق الأخرى. هل كان المغرب يتخذ احتياطات معنية لتجنب هذه الأوبئة؟ خوفا من تفشي وباء الطاعون في المغرب بعد ابتعاده عنه طيلة النصف الثاني من القرن ال18، في ظل تفشيه المستمر في الدول المجاورة، خصوصا الجزائر وتونس ومصر التي فتك بها الوباء في العشرية الأخيرة من القرن ال18، بدأ المغرب يتخذ بعض التدابير الوقائية، منها ما قام به المولى سليمان، بضغط من الهيئات القنصلية في طنجة، حيث أصدر ظهيرا سنة 1797 يقضي بفرض الحجر الصحي على السفن الآتية من وهران، لكن ذلك لن يمنع من تسرب الوباء إلى المغرب عبر الحدود القارية من الجزائر سنة 1799، حيث كان المغرب على موعد مع موجة جديدة من الطاعون خلفت آلاف الضحايا. ومن بين الأرقام المسجلة بخصوص طاعون 1798-1800، نجد: فاس 65000 ضحية، مراكش 50000، آسفي 5000، الصويرة 5500، الرباط 2000، إضافة إلى طاعون 1818-1820، حيث انطلقت هذه الموجة من مصر سنة 1816، وعند وصول الطاعون إلى الجزائر سنة 1817، اجتمع مجلس القناصل في طنجة، وقرر فرض حجر صحي مدة أربعة أيام على جميع المراكب الآتية من بلاد المغرب الكبير والشرق الإسلامي، ومدة يومين على المراكب المقبلة من الموانئ الأوربية في ما وراء جبل طارق… أي أن التعامل مع خطر انتشار الوباء أصبح صارما؟ نعم، لكن التساهل مع سفينة للحجاج سنة 1818 سيؤدي إلى تفشي الطاعون في المغرب، حيث سجلت طنجة وحدها حوالي 2200 حالة وفاة. وفضلا عن وباء الطاعون، عاش المغرب وباء الكوليرا أو بوكليب 1834-1835، وقد عرف القرن ال19م خمس موجات عالمية من وباء الكوليرا، وظهر في المغرب أول مرة سنة 1834، وصادف انتشار الوباء في العالم انفتاح المغرب على التجارة البحرية، وتزايد عدد السفن الواردة على المغرب. وبالرغم من بقاء المغرب بمعزل عن الموجة العالمية الأولى من الكوليرا بين 1817-1824، وإصدار المولى عبد الرحمن سنة 1834 قرارا بطرد السفن المشكوك فيها، وفرض الحجر الصحي على أخرى، فإن الوباء تفشى في مدينة فاس في نونبر 1834، وذهبت المصادر إلى أن الوباء تسرب إلى المغرب عبر حدوده الشرقية مع الجزائر. وبعد الكوليرا، ظهر وباء التيفويد بمدينة مراكش نهاية سنة 1878، وكان يخلف ما بين 200 و300 ضحية كل يوم، ومن أشهر من توفي بهذا الوباء الصدر الأعظم أحمد بن موسى (باحماد) سنة 1879. عاود وباء الكوليرا الظهور في المغرب سنتي 1895-1896 ضمن موجة عالمية أخرى من الوباء، وسجل المغرب ظهوره متأخرا بسبب التدابير الاحترازية التي قام بها في موانئه. وتشير المصادر إلى سفينة مغربية تحمل حوالي 750 حاجا وصلت إلى ميناء طنجة في 12 غشت 1895، ورخصت لها السلطات المغربية بالرسو في الميناء بعد إدلاء قائدها بشهادة تثبت الوضعية الصحية الجيدة لركاب السفينة، لكن بعد نزول الحجاج وانتشارهم في طنجة، سجلت أولى الوفيات بشكل غير طبيعي في المدينة، الشيء الذي دفع السلطات المحلية إلى الاعتراف بتفشي الكوليرا في المدينة، ومنه انتقل إلى باقي المناطق. ويمكن القول إن ما ميز تاريخ الأوبئة في المغرب، هو تضافر مجموعة من العوامل، مثل الجفاف والمجاعات والاضطرابات السياسية، وفشل التدابير الوقائية التي كانت تقرها الدولة للحد من دخول الأوبئة إلى المغرب، لكن، مع دخول الحماية، واهتمام الإدارة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية بالوضع الصحي للبلاد، في إطار توفير الظروف الصحية الملائمة لاستقرار المعمرين الأوربيين، سوف تتراجع حدة تفشي الأوبئة في البلاد مقارنة بالفترات السابقة. ما الذي كان يميّز التعاطي المغربي مع الأوبئة الفتاكة، سواء رسميا أو شعبيا؟ ج: على الصعيد الرسمي، فقد كان المغرب تاريخيا مبادرا إلى اتخاذ الاحتياطات التي يستطيع القيام بها للحؤول دون تسرب الأوبئة العالمية إلى البلاد، لكن امتداد حدوده البرية والبحرية في ظل فترات الاضطراب السياسي والتراجع الاقتصادي، كان يحول دون نجاعة هذه التدابير، الشيء الذي كان يؤدي إلى تسرب الوباء ووقوع ضحايا بالآلاف، وحدوث نزيف ديمغرافي كانت له تداعيات خطيرة على المجتمع المغربي في فترات عدة. ولم تكن الدولة قادرة على فعل شيء أمام تلك الأوضاع في ظل تأخرها في المجال الطبي. إذ إن تشخيص الأوبئة غالبا ما كان يمارسه الأطباء الأجانب الذين كانت تكلفهم التمثيليات القنصلية بطنجة بمهمة البحث في طبيعة الأمراض والأوبئة المتفشية. أما على الصعيد الشعبي، فقد كان المعتقد الشعبي يربط الأوبئة بالغيبيات، ويرجع تفشيها إلى العقوبات الإلهية بسبب الابتعاد عن الدين وسوء المعاملات بين الناس، خصوصا أن بعض فترات تفشي الأوبئة كانت تُزامن سنوات الجفاف، مثل طاعون 1750، أو الأمطار الطوفانية سنة 1742 مثلا، وهو ما كان يشجع الاعتقاد بالعقاب الإلهي، في ظل عدم توفر الناس على تفسير علمي للوباء. استفاد المغرب كثيرا في الجانب الطبي من فترة الحماية، رغم أن الاهتمام بالمنظومة الصحية المغربية من لدن فرنسا كان لضمان الأمن الصحي للفرنسيين بدرجة أولى، ثم المغاربة بدرجة ثانية، لأن الهدف كان هو ترسيخ السلوك الوقائي في صفوف المغاربة الذين يتعامل معهم الأوربيون. اليوم، مع وباء فيروس كورونا، يسجل للدولة المغربية تفاعلها السريع والحازم مع الأوبئة العالمية عبر الإجراءات الوقائية المتخذة مبكرا مقارنة بدول متقدمة تفشى فيها الوباء. لكن المشكل الكبير يبقى على المستوى الشعبي، فالنظرة الشعبية التاريخية إلى الأوبئة مازالت لها امتدادات لدى بعض الفئات إلى يومنا هذا، وهي تلك المتمثلة في قدرية الإصابة بالوباء، وعدم جدوى التدابير الوقائية في ظل حتمية الإصابة التي لا دخل للبشر فيها بقدر ما هي إرادة إلهية. أضف إلى ذلك بعض التفسيرات الغيبية المرتبطة بالعقاب الإلهي نتيجة الابتعاد عن الدين وغيرها، وهي كلها تفسيرات لا تختلف عن تلك التي كانت سائدة في القرون الماضية، وتشكل عائقا كبيرا أمام نجاعة التدابير الوقائية. كيف تعاملت الذاكرة المغربية مع هذه الأوبئة؟ ظهور وباء كورونا في المغرب، والحملات التحسيسية القوية بخطورته، والتدابير التي تتخذها الدولة، كل هذه الأمور خلقت وضعا استثنائيا في المجتمع، لكنه كشف مسألة مهمة، وهي غياب أي صورة لدى الجيل الحالي حول طبيعة الأوبئة الجماعية التي تضرب المجتمع، رغم أن بعض المفردات المتداولة لها امتداد تاريخي مرتبط بتفشي الأوبئة مثل «بوكليب»، والمقصود به وباء الكوليرا، حيث سمي بهذا الاسم نظرا إلى تقلب حالة المريض في ظرف 24 ساعة من إصابته بالمرض، وشحوب وجهه وجحوظ عينيه وتقلبهما في محجريهما، وحالة القيء المستمرة التي تنتابه، وهو ما جعل المغاربة يصفونه بهذا الوصف. غير ذلك، فقد دفعت أزمة كورونا الناس إلى العودة إلى التاريخ، في محاولة لتكوين صورة حول الآثار التي يخلفها تفشي الوباء في المجتمع. وبطبيعة الحال، فالخوف والتوجس دفعا الناس إلى استدعاء بعض الأحداث المرتبطة بتفشي الطاعون، مثلا، في مراحل تاريخية سابقة. وكل هذا يؤكد أن الذاكرة المغربية حاليا تبتعد شيئا فشيئا عن تمثل حالة المجتمع المغربي في مثل هذه الظروف، بسبب تعاقب الأجيال، وعدم معاصرتها حالات وبائية كالتي نعيشها اليوم.