يستغرب الكثير من المغاربة حاليا قلة عدد حالات كورونا المسجلة بالبلد رغم انتشار الوباء في دول أوروبية متقدمة، مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرها؛ إلا أن حالة مشابهة سبق أن حدثت في تاريخ المغرب في القرن 19؛ إذ بقي لفترة طويلة بمنأى عن وباء الكوليرا الذي اشتهر عند الساكنة باسم "بوڭليب". وصف القدماء هذا الداء بأنه "ريح ما سمعوا به، قاتل في حينه، ويسمونه عندنا في المغرب بأسماء الكوليرة والريح الأصفر وبوقليب..إذا أصاب الرجل تغير لونه واسودّ جفن عينه، ويجعل يقيء من أعلا ويسهل من أسفل. ومن الناس من يشتكي مع ذكر وجع رجليه ويموت في الحين". وفتك وباء الكوليرا بمواطنين من دول كثيرة في العالم بين سنتي 1817 و1824، من خلال ما سميت الموجة الأولى لداء الكوليرا التي عرفها العالم في القرن التاسع عشر لخمس موجات. ورغم وصول هذا الداء إلى أوروبا، حيث ساهم الجنود البريطانيون في انتشاره في الهند، ونشره الجيش الفارسي أثناء حربه مع تركيا سنة 1822، كما نقلت الجيوش الروسية الوباء من كورسك وخاركوف نحو بولونيا وغيرها، ووصل البرتغالوإيطاليا بسبب الحروب وتحركات الجنود؛ إلا أن المغرب كان بمأمن منه لفترة فقط. وبدأت الموجة الثانية لهذا المرض الفتاك سنة 1829 في العالم، حيث خلف 5500 قتيل في انجلترا، و100 ألف ضحية بفرنسا إلى حدود 1832. أما الأراضي المغربية فقد كانت مع موعد مع هذا الوباء في فبراير سنة 1834. حج بيت الله حسب المصادر التاريخية فإن وباء الكوليرا تفشى بمكة عام 1831، وفتك ب12000 حاج، وهو نصف عدد الحجاج الطائفين حول الكعبة في ذلك الوقت، وتفشى عن طريق الفارين في سوريا وفلسطين ومصر وتونس حسب ما أورده الأمين البزاز في كتابه "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19"، الذي أكد أن الأخطار بتعرض المغرب للعدوى "تزايدت بحكم علاقاته المنتظمة بالمشرق عن طريق الحجاج"، وزاد: "لقد كانت الطرق التقليدية إلى الحج تشكل نوعا من الحصانة، لأن الحجاج المغاربة يقضون حوالي أربعة أشهر للعودة من الإسكندرية إلى بلادهم"، مردفا: "كان الركب يتخلص من جميع الأفراد الموبوئين، لكن بعد أن أصبحوا يستعملون الطريق البحري تقلصت مدة السفر، إلى أن بات الحج المغربي إلى الديار المقدسة مصدر تهديد مستمر في غياب وضعف الوسائل الوقائية". تدابير وقائية لم يكن التنظيم في ذلك الوقت يسمح باتخاذ تدابير ناجعة، إلا أن وجود هيئة من القناصل في طنجة كان إيجابيا في هذا المجال، فقد كانت هذه الهيئة تمارس بعض الضغط لحماية رعاياها، كما تمت الإشارة إلى ذلك في المقال السابق عن طاعون 1798 و1800، وذلك عندما طالبت السلطان مولاي سليمان ببعض الإجراءَات، والذي ساهم جنوده في نقل المرض نحو أرجاء المغرب من خلال الحْركات والمحلات.. وأورد المصدر السابق أن "القناصل الأجانب بطنجة قاموا بمحاولات دفاعية ضد الوباء، فقد استصدروا بين 1829 و1831 قرارات الطرد والحجر الصحي ضد السفن الموبوءة أو المشكوك في حالتها الصحية لحماية المغرب من الكوليرا التي تفشت في جبل طارق ثم في الجزائر"، مردفا بأنه "عام 1834 اتخذوا تدابير صارمة بعد أن اكتسح الوباء السواحل الإسبانية، وأصدر مولاي عبد الرحمان أوامره إلى كافة عماله بالمراسي التجارية لتنفيذ هذه التدابير". ضحايا "بوڭليب" نقلا عن المصدر التاريخي سابق الذكر فإن الكوليرا بعد وصوله إلى المغرب انطلق من فاس سنة 1834 نحو مكناس، ووزان، والقصر الكبير وطنجة وتطوان والعرائش وسلا والرباط، ثم بعد سنة انتشر في الدارالبيضاء وآسفي والصويرة ومراكش والواحات الشرقية. وعن عدد الضحايا، يورد المصدر نفس، "لم يتجاوز 60 ضحية في اليوم في بعض المدن مثل الرباط ومراكش، و50 ضحية في اليوم في طنجة التي لم تتجاوز حصيلة خسائرها 650 ضحية، أي 8 في المائة من مجموع سكانها، وهي نسبة تقل بكثير عما خلفه طاعون 1818، الذي بلغت نسبة القتلى منه 20 في المائة". ونقل الكتاب عن تقييد محلي أن عدد ضحايا هذا الوباء في فاس بلغ 8 آلاف شخص، و4 آلاف بمكناس؛ بينما كان عدد الضحايا أقل في قصر المعيز بفڭيڭ، وهو 345 شخصا. فيما تغيب أرقام دقيقة في بقية المدن لضحايا هذا المرض الذي يصف أحد المؤرخين موت المصابين به بأنه "موت فجأة"، موردا: "..كم من واحد مات فيه بالحيرة والدهشة، حيث يرى أخاه يمشي سليما، فيسقط ميتا، وقل من جاوز في تلك المدة أربعا وعشرين ساعة".