من بين أكثر التحديات المعاصرة التي تواجه المسلمين اليوم وأكثرها استشكالاً؛ تحدي تحديد النصوص الدينية بطريقة تتيح للمسلمين تعريف دينهم نظرياً عن طريق بناء فكري متين وفق المعايير المعتمدة والمتعارف عليها عالمياً. ولعل أبرز نقاش نجد له صدى في الأوساط الإسلامية اليوم (في أوساط الشباب بالخصوص)؛ نقاش تبرئة الدين من ظواهر اجتماعية-ثقافية تمارس باسم الدين، وتجد لها في كتب التراث الإسلامي خير سند ومعين. في إجابة له عن "رجم النساء" في الإسلام، يقول البروفيسور طارق رمضان بأن الرجم موجود في كتب يعتبرها المسلمون مراجع معتمدة، وهو واقع لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكاره، داعياً بعد ذلك لوقف العمل بهذه العقوبة في بعض المناطق ذات الأغلبية المسلمة. موقفه هذا من الرجم سيسوق بعد ذلك على خلاف ما أراده، خصوصا وأنه جاء في خضم مناظرة متلفزة مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. إذ اعتبر بعض المثقفين والإعلاميين الفرنسيين إجابة طارق رمضان بمثابة دعم للإرهاب وللسلوكيات الحيوانية في الشرق الأوسط. ذلك أنه عوض إعلانه عن رفضه وإدانته لهذه التصرفات يصر على الاعتراف "بشرعيتها" مكتفياً بدعوته لإيقافها وفقط ! تفاعلاً مع ردود الفعل هذه وبعد أن استنكر على من يريد إصلاح العالم الإسلامي من داخل الصالونات الباريسية، طرح المفكر الإسلامي الأكثر إثارة للجدل في القارة العجوز على علماء المسلمين عبر العالم ثلاث أسئلة هي في تقديري جوهرية ومحطة انطلاق لا بديل عنها لكل من أراد المساهمة في "تنظيم وتنظير" المصادر الإسلامية اليوم. ماهي هذه النصوص؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها لتطبيق هذه النصوص؟ وأخيراً وما هو السياق المجتمعي الذي يجب توفيره لتنزيل هذه النصوص؟ ثلاث أسئلة ستكون بإذن الله قاعدة وأساس هذه المقالة التي أرجو أن لا أطيل فيها. ماهي هذه النصوص؟ التساؤل عن النصوص تساؤل مشروع وضروري خصوصاً وأن ما تستند عليه داعش مثلاً من نصوص تبرر لها أفعالها لا يلزم أكثر المسلمين بل ولا ترى فئة منهم ضرورة وجودها أصلاً، فيما ينادي آخرون بحرقها !! الإقرار النظري بصحة ما في النصوص والتكذيب العملي لها هو الذي أوقع المسلمين اليوم في التهافت والضياع. ما العمل إذاً ؟ إن النقاش على هذه المستوى سيقودنا لا محالة إلى الأطروحة التي تقدم بها عدنان إبراهيم وحسن بن فرحان المالكي ومحمد شحرور وآخرون في اعتبار القرءان الكريم مصدر رئيسي وقياسي للتشريع. بمعنى أن كل ما ورد في القرءان صحيح من دون أدنى شك، بينما كل منقول غيره يقاس إليه، فإن توافقا فحي أهلا وسهلا، وإن لا فالقرءان أولى ولا شرعية لهذا المنقول كائناً من كان قائله. الوقوف عند هذه المرحلة المنهجية مهم جداً، إذ سنستطيع من خلاله تحديد المراجع الدينية التي نعتمدها والتي تعكس حقيقة تديننا من دون التواء. قد يقول أحدهم ساخراً؛ "أحسبت أن القرءان كتاب إنساني حتى تفتخر بكونه يعكس حقيقة تدينك ؟! ففيه الجلد وقطع الأيادي والأرجل من خلاف وفيه الجزية وفيه الاعتداء وفيه من الظلم والهمجية أشكال وألوان." فأقول؛ وهذا موضوع السؤال الثاني ! ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لتطبيق هذه النصوص؟ فيما مضى من الزمان عرف المسلمون سنة قاسية لا طعام فيها كاف ولا ماء، وقد تزامنت هذه السنة مع وجود أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة على المسلمين وأميراً لهم. فكان الناس يسرقون لسد رمق جوعهم وجوع أبنائهم. لا بديل عن ذلك إلا الموت ! فلما بلغ أمير المؤمنين نبأ القوم أمر مسرعاً بتعطيل حد السرقة حرصاً منه رضي الله عنه على تطبيق روح القرءان الكريم لا نصوصيته. إن هذه القصة أجدها مركزية في التاريخ الإسلامي، ذلك أنها تتيح لنا الحديث عن مقاصدية القرءان الكريم. الحديث عن المقاصدية يقودنا إلى قوله تعالى : "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله". ففي القرءان إذاً محكم ومتشابه، والأصل في وجود المتشابه خدمة غائية المحكم، فمتى ما انتفى هذا الشرط (تحقيق غائية المحكم) انتفى معه المتشابه. بهذا المنظار الثاقب نظر الفاروق إلى مستجدات الأوضاع فعطل حد السرقة من دون تردد ! اعتراض: القرءان الكريم يأمر المسلمين بقتل المشركين وضرب رقابهم "فما محل ذلك من الإعراب" ؟ أقول : فمحكم القول ومجمله قوله تعالى : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين". والمتشابه فيه ما ذكرته في الاعتراض. فهل آية قتال المشركين تخدم غائية آية النهي عن قتال المسالم ؟ الجواب : لا! وعليه وجب علينا وضع الآية في سياقها لنستنتج كخلاصة أن المشركين المقصودين في الآية هم في الواقع المشركين المقاتلين، فظاهر اللفظ عام لكن المراد به خاص كما يقال في الفقه! وقد يتساءل أحدكم عن المسوغ الذي اعتمدته في اعتبار آية النهي عن قتال المسالمين آية محكمة فيما اعتبرت آية قتال المشركين متشابهة. هنا أقول : وهذا تساؤل ذكي وبغيره يتكدر الفهم. إن آية النهي عن قتال المسالمين ذكرتهم في صيغة النكرة، والنكرة تفيد العموم هو كما معلوم، بينما آيات القتال كلها تكلمت عن قوم معروفين ومعرفين ب"آل" التعريف. إن تتبع آيات كتاب الله ثم تحديد المجمل منها و المفصل لهو خطوة مهمة جداً تيسر علينا فهم مشروطية بعض النصوص ووضعها في سياقاتها، وهو ما قام به المهندس والمفكر الإسلامي محمد شحرور بدقة عالية ! ما هو السياق المجتمعي الذي يجب توفيره لتنزيل هذه النصوص؟ الحديث في هذه النقطة يطول لكثرة النقاط التي ينبغي أن نتطرق إليها، لكنني سأحاول تركيزها في نقطة وحيدة ولقارئي الكريم بعد ذلك القياس. إن الحجاب مثلا مفهوم ثقافي بالأساس (كما أراه) وليس لأحد من المسلمين العرب أن يفرض على أجنبية التحقت بالإسلام ارتداءه وإلا فإسلامها ناقص، إذ أنه مرتبط بنمط تدين عربي. فالعربيات يجدن في ارتداء الحجاب تديناً وامتثالاً لأوامر المولى عز وجل وهذا أمر جميل أحبذه بل وأدعو إليه. لكن مسلمة توجد في وسط أوربي مثلاً قد يشكل الحجاب عليها عائق تواصلي ويعزلها عن العالم، فلا حرج بتاتاً عليها، ولها أن تلبس كما تعارف قومها والمحيط الذي نشأت فيه. كما أن الشعر ليس ذو قيمة في الأوساط غير العربية (مقارنة بالأوساط العربية)، ولا فتنة فيه ولا إثارة فلا داعي لتحجير الدين ومحاصرته في العرف الثقافي العربي. ومن هنا يتاح لنا الحديث عن عالمية الإسلام. فإسلام أوربي، وإسلام عربي وآخر إفريقي وأسيوي ... ولكم فقط أن تتخيلوا ! إضافة 1: أضمن لكل من يسير وفق هذه الخطة المنهجية بصرامة وصوله لإسلام معتدل ! إضافة 2 : اعلم عزيزي القارئ أنك كنت في رحلة حطت رحالها اللحظة، تجولت من خلالها داخل عقلي، وإني لأعلم أن التهافت في كلامي كثير وما قصدي من وراء نشر هذا الكلام إلا ذلك، بغية تقويم ما يمكن تقويمه من خلال ما سيجود به النقاش والله من وراء القصد محيط!