أول درس في التاريخ كان يدرس للأقسام الأولى من التعليم الثانوي ضمن النظام التعليمي لسنوات الثمانينات، كان تحت عنوان " الحضارة العربية مهد النهضة الأوروبية " و هو عنوان يحمل في مضمونه حقبة ذهبية تجسد التفوق الكبير الذي كان يعرفه العالم العربي في مجالات علمية متعددة، بعدما عمل العلماء العرب المسلمون على نقل ما توقفت عنده العلوم الإغريقية و غيرها من ألوان الحضارات التي تقدمت عليهم في التاريخ، و ترجمتها إلى العربية التي أصبحت بفضل ذلك المجهود الجبار، لغة علم و ثقافة، و أصبحت بذلك العواصم العربية قبلة للدارسين و الباحثين من أهل الغرب، لمجالسة المعلمين المسلمين، يدرسون عنهم الفنون و العلوم و الفلسفة و غيرها، و بهذا يكون الغرب ممتنا للعرب بما قدموه له من مؤلفات عربية مترجمة إلى لغات أوروبية و على رأسها اللاتينية، استفاد منها من أتي من بعد من علماء النهضة الأوروبية . يمكن القول أن عملية التصدير من العرب إلى أوروبا كانت فكرية و علمية قبل أن تكون بشرية عن طريق هجرة اليد العاملة الشرعية و الغير شرعية، التي ازدهرت في النصف الأخير من الألفية الثانية. وفي كلتا الحالتين، كان للعرب فظل كبير فيما قدموه للغرب، فالثقافة العربية الإسلامية التي نقلها الأوروبيون و معهم المسلمون خلال فتوحاتهم للأندلس، يرجع لها كل الفضل في بناء النهضة العلمية الأوروبية و العالمية، و اليد العاملة العربية التي هاجرت إلى أوروبا قسرا و طوعا، حملت على أكتافها بناء الحضارة الأوروبية بسواعدها، حتى صارت إلى ما صارت إليه، من تقدم و ازدهار و تطور في شتى المجالات، جعلتنا تابعين لها سياسيا و اقتصاديا و فكريا، و أصبحنا نسخة ممسوخة منها، و صار مقياس التحضُّر عندنا يقاس بمدى محاكاة الغرب في نمط حياتهم، و أساليب ووسائل عيشهم، رغم التباين الواضح على المستوايين المادي و الاجتماعي.
و يبدو أن التاريخ اليوم يعيد نفسه، و يبدو أن أوروبا وجدت ضالتها عند العرب مرة أخرى، و يبدو أن العرب كانوا السباقين إلى ما يمكن للشعوب الأوروبية أن تستفيد منه للخروج من أزماتها التي أبانت عن فشل كل المذاهب السياسية و الاقتصادية الاجتماعية التي تبنتها أنظمتها الحاكمة، و التي أبانت عن عجزها الكبير في مسايرة تطور العصر، بدءا من انهيار الفاشية و النازية و الشيوعية و الديكتاتورية، وصولا إلى عجز نظام العولمة في إيجاد حل لما يعرفه العلم من أزمات اقتصادية. و يبدو أن فضل المرحوم "البوعزيزي" لم يَعُمَّ التونسيين و العرب فقط، بل الأوروبيين أيضا، وهذا ما ظهر جليا، و شهدته ساحة " لا بورطا ديل سول" بالعاصمة الإسبانية مدريد، حين خرج الأسبان إلى الساحة مطالبين بالتغيير و الإصلاحات الاجتماعية و الديمقراطية الحقيقية، وتحسين ظروف المعيشة في أعقاب الأزمة الاقتصادية و لم يبق أمامهم سوى رفع المكنسات في وجه منتخبيهم حتى يتساووا معنا في الشعارات، كما هددوا بمقاطعة الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها يوم غد الأحد.
ولا مجال للشك أن الشعب الاسباني و معه الأوروبي، من الشعوب السباقة إلى استعمال التقنيات الإعلامية، لكن الشباب العربي كان مبدعا حين استغل تلك التقنيات في تأطير و تنظيم ثورات أطاحت بأنظمة، و تعمل على الإطاحة بأخرى، و عمل الأسبان على استيراد الفكرة و استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في حشد المتظاهرين و تنظيم الاعتصام الذي دعت إليه حركة 15 ماي من أجل التغيير، على غرار تسمية الحركات الشبابية العربية، كما قضى حوالي أربعة آلاف من المعتصمين ليلتهم بالساحة المذكورة فيما يشبه اعتصام ميدان التحرير المصري بشعاراته و حلقياته و خيامه...و لم يختلف وضعهم عنا إلا في أمر واحد،و الذي يتمثل في كَوْنِ المعصمين الأسبان و مع أنهم عاطلون عن العمل،إلا أنهم يستفيدون من مساعدات الدولة و التعويضات عن البطالة، أي أنهم يعتصمون و هم مرتاحون إلى حد ما ماديا، الأمر الذي سيمنحهم قدرة على المواصلة بأريحية ،عكس وضعنا نحن.
وإذا كانت الفتوحات الإسلامية قد انطلقت من الشرق في اتجاه المغرب و منه إلى أوروبا، فإن الثورة العربية قد انطلقت من الغرب و بالضبط من تونس، في اتجاه الشرق ثم إلى إسبانيا، و ربما إلى دول أخرى من أوروبا، و هكذا يجد الأوروبيون أنفسهم مرة أخرى مدينون لنا بتصديرنا إليهم حركة تغيير هي ماركة عربية مسجلة، لتنضاف إلى الديون التي عليهم تذكرها، كما قال الكاتب المسيحي " كولريونج " youn) C. (" إن الدَّيْنَ الثقافي العظيم الذي ندين به للإسلام، يجب التذكيرُ به دائماً ".