يرى الدكتور نشأت الحمارنة، وهو أستاذ جامعي بجامعة دمشق بسوريا، مجمع اللغة العربية، أن تاريخ العلم مكتوب بطريقة يجب أن يعاد فيها النظر لأسباب منها أن مؤرخي العلم نسوا أن العلم بدأ مع الحضارات الأقدم وتحديدا بمصر وبلد ما بين النهرين وبعد ذلك انتقل إلى الإغريق، ومن هؤلاء إلى العرب في الإسلام ثم إلى أوروبا في عصر النهضة، وليس كما هو مدون بأن العلم بدأ مع الإغريق. وأشار الحمارنة، الذي ألقى محاضرة بالمغرب مؤخرا في ندوة نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء حول تاريخ العلوم في الإسلام، إلى أن الفرنكفونيين تمكنوا من إجهاض علمية التعريب ليس لأنهم لا يثقون في اللغة العربية، ولكن لأنهم يخشون فقدان مناصبهم في الجامعة عندما يبدأ التعريب . واعتبر الحمارنة، الذي له العديد من الدراسات والمؤلفات في التراث العلمي العربي وفي المصطلحات الطبية في التراث العربي، ومهتم باللغة العربية وتاريخ العلوم، أنه ينبغي الحفاظ على اللغات الأخرى في كل بلد مثل الأمازيغية والقبطية التي قال إنها لا ينبغي أن تبقى محصورة في الكنائس. - غالبا ما تتحدث عن تاريخ العلوم وعن وجود أخطاء في كتابته. ماذا تقصد بذلك؟ العلم تراث للبشرية جمعاء، وبشكل خاص الطب لأنه أهم العلوم العملية والنظرية التي لها علاقة بالإنسان ويرتبط بالصحة والمرض والموت. تاريخ العلوم هو علم في حد ذاته مثل الفيزياء والرياضيات. ولا بد من الإشارة إلى أن تاريخ العلم مكتوب بطريقة يجب أن يعاد فيها النظر لأسباب عديدة، وأن أبرز العيوب هو أن مؤرخي العلم نسوا أن العلم بدأ مع الحضارات الأقدم وتحديدا بمصر وبلد ما بين النهرين وبعدها انتقل إلى الإغريق, ومن هؤلاء إلى العرب في الإسلام ثم إلى أوروبا في عصر النهضة. هذه هي الحقيقة، لكن المكتوب هو أن الإغريق أول من عرف العلم وبذلك يتجاهلون الإنسان ويحتقرون العقل البشري كأنه على مدى الحضارات التي دامت آلاف السنين لا يوجد سوى الإغريق. كما، ويحتقرون الذي بنى الأهرام ووضع قواعد الرياضيات والهندسة والزراعة والفلك... كأن هذا العقل غير موجود طبعا. فهؤلاء المؤلفون هم ضحايا نظرية سائدة في تاريخ العلم، وهي النظرية الممركزة على أوروبا، والتي بها شيء من مرض النرجسية وفيها طعم عنصري. التاريخ يجب أن يكتب من جديد كما يعبر عن ذلك مؤرخو العلم، الذين يتصفون بالنزاهة والأمانة والذين يعتبرون تاريخ العلم عبارة عن سلسلة متصلة وعلوم الإغريق في منتصفها وليس في أولها. والعيب الثاني هو أن الأوروبيين لا يعرفون الدور الذي قام به العرب في المرحلة الإسلامية من تاريخهم لأنهم لا يقرؤون العربية. كما أن المخطوطات لم تنشر، والمستشرقون الذين يفهمون العربية لا يعرفون شيئا في تاريخ العلم. إذن هناك أسباب موضوعية حالت دون كتابة تاريخ العلم كتابة صحيحة فيما يتعلق بالمرحلة الإسلامية من التاريخ، وبالتالي لا هم يعرفون الدور الذي لعبه العرب في الإسلام ولا هم يعرفون كيف انتقلت العلوم من العالم الإسلامي إلى أوروبا في العصر الوسيط. لذلك هناك عدد من المؤرخين انتبهوا إلى هذه المسألة ويحاولون علاج الأمر. - هل المؤرخون العرب وحدهم من يسعون إلى ذلك؟ ليس بالضرورة العرب، بل هناك مؤرخون غربيون نزهاء. وهناك أيضا عرب، باستثناء قلة قليلة، هم تلامذة الغرب، وهم في غالبيتهم لا يدركون أن تاريخ العرب مكتوب بطريقة غير صحيحة. على سبيل المثال نجد عندنا في مؤلفات التاريخ أن هناك تاريخ قبل الإسلام وبعده، وكأن الإسلام كارثة خرب ما قبله، وكأن التاريخ انقطع، علما أن هذا لم يحدث. عندما جاء الإسلام جاء بروح جديدة أعطت الثقافات الأقدم قدرة على الحياة والتقدم والنشاط. - هناك من ينتقد حديث العرب عن أمجادهم، وهناك من يرى أن هذا تاريخ مضى. لماذا يتم الحديث دائما عن الماضي؟ هذه عقد سببها ضعف الثقافة وعدم الثقة بالنفس والإحباط الناجم عن فشل محاولة الانبعاث العربية وعدم قدرتها على مواصلة برنامجها مواصلة صحيحة. كما أن الأمة يزداد إحساسها بالتجزئة وبالضعف ويزداد شعورها بأنها مستهدفة وأن الاستعمار والإمبريالية زرعا الكيان الصهيوني وسط الوطن ليقسما الشرق عن الغرب العربي، كما أن هناك مؤامرة على اللغة العربية وعلى المنظومة القيمية والهوية، وهذه عملية تاريخية أخذت وقتا طويلا، فالاستعمار بدل أن يواجه قوة التقدم والثورة بجنوده يواجهها بأنظمة وطنية، فمثلا إذا أردت أنا الاحتجاج فليس هناك جندي فرنسي يقمعني، ولكن هناك جنديا وطنيا يقمعني، فالدور الذي تلعبه الأنظمة القطرية يرسخ التجزئة، لذلك أنظر إلى المسألة من هذه الزاوية، فالشعب يزداد يوما بعد يوم ثقة بنفسه وتفاؤلا، والشعوب دائما تعطي وتضحي بدون حدود من أجل مستقبلها وهويتها ومن أجل الكرامة. - هل يمكن أن نقول إن الأمر يتعلق بصراع الحضارات؟ لا يوجد شيء اسمه صراع حضارات، لأن الحضارة الحقيقية إنسانية. الإمبريالية أو الاستعمار ليست لهما حضارة، بل لهما مطامع. الاستعمار ينهب ويقتل، فمن الذي أباد حضارة «الأنكا» و«الأزتيك» في أمريكا اللاتينية؟ لقد أبادوا شعبا وحلوا محله، وأرادوا أن يبيدوا حضارة جنوب إفريقيا ويحلون محلها. - هم يريدون إبادة الفلسطينيين وإقامة دولة لليهود. هل هؤلاء يمثلون الحضارات؟ هناك أمة ذات حضارة تعرضت للتجزئة والسحق والنهب وهي في طريق الانبعاث وهي مستعدة لتقديم التضحيات. ولكن الغرب الاستعماري كان على درجة من الدهاء، فخلق أنظمة تحافظ على التجزئة وتحول دون استمرار النضال من أجل الوحدة. هذا مخطط واضح أدركه الشعب العربي ويحاول أن يقف في وجهه، فعلى سبيل المثال لما نجد دولة الكيان الصهيوني هزمت العرب في حرب 1967 بسبب التفوق التكنولوجي, لم يشاهد الجندي العربي جنديا إسرائيليا، فالتكنولوجيا في الكيان الصهيوني أحرزت انتصارا خاطئا، لكن لما لجأ العرب إلى المقاومة تغيرت المعادلة. حينما انهزم العرب في هذه الحرب خرج الاستعماريون في فرنسا يهللون فرحا لانتصار إسرائيل على العرب، لأنهم لم ينسوا أن هذه البلاد كانت مستعمرة ولم ينسوا هزيمتهم في الجزائر. هذا الحقد مكون من مركب عنصري استعماري، استيطاني، إمبريالي. لكن لا ننسى أن الأوروبيين الشرفاء يدركون العمق الإنساني للحضارة العربية، لذلك يقفون معنا في مأساتنا، وعندما تعرض العراق للهجوم، قالوا لا ندفع دم أبنائنا ثمنا للبترول، واستنكروا ما يقع لغزة أمام سمع وبصر العالم. لذلك، فإن النقاط التي يركز عليها الغرب هي الهوية العربية التي أعتبرها مستهدفة، وبالتالي فإن أحد أهم مكونات هويتنا هي اللغة، مرة يحاربون اللغة العربية بحجة ضرورة انتشار اللهجات الإقليمية، ومرة ينطلقون من الفرنكفونية والأنكلوفونية لأنهم يعرفون أن اللغة هي العنصر الرئيس الذي وحد الناس. - هناك من يقول إن اللغة العربية لم ترق إلى مستوى العالمية، كما هو الشأن بالنسبة للغات أخرى مثل الإنجليزية؟ ماذا تعني عالمية؟ في الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت اللغة الآرمية هي لغة التجارة والدبلوماسية في العالم كله من المحيط الأطلسي إلى الصين، واللغة العربية في الإسلام أصبحت عالمية، فخلال القرن 17 كان على الأوربيين إذا كانوا علماء وأرادوا قراءة الفلك والرياضيات أن يتعلموا العربية. أما الآن فالأمة مجزأة ومستعمرة، فكيف إذن يمكن لها أن تصمد؟ الفرنسيون خلال الاستعمار في الجزائر منعوا الناس من التكلم. لذلك لا عذر لوزراء التعليم العالي ولرؤساء الجامعات والمسؤولين الأعلى منهم في التساهل في تعريب التعليم، لأن التعريب لا يكون إلا باللغة الأم. - بالمغرب مثلا ما يزال التعليم العالي في المواد العلمية بالفرنسية، ما تعليقك؟ اللغة العربية على مدى عدة قرون كانت لغة التعليم الابتدائي والمتوسط والتعليم العالي، فاللغة لم تتراجع، وهي قادرة على استيعاب العلم، وحتى على استيعاب مصطلحات العلم الذي يتذرع بعض الناس أنها غير موجودة. هؤلاء إما أن يكونوا جهلة ولا يعرفون لغتهم ولا غناها ولا تاريخها ولا مرونتها وقدرتها على الاشتقاق، والاستيعاب، وإما أن يكونوا أصحاب موقف إيديولوجي معاد للغتهم الأم ولغتهم الوطنية. وقد يكون هذا الموقف بسبب أنهم تعلموا في الغرب ولا يعرفون العربية، يخشون على مناصبهم، كما حدث بالجزائر. إذ إن الفرنكفونيين تمكنوا من إجهاض علمية التعريب ليس لأنهم لا يثقون في اللغة العربية، ولكنهم يعرفون أنه إذا تم التعريب سيعجزون ويفقدون كرسي الجامعة. سأعطي مثالا بسوريا، فطلاب الطب يدرسون منذ خمسين سنة بالعربية، وحينما يذهبون إلى أوروبا وأمريكا يتفوقون لأن تعلم لغة أخرى غير متعذر، فمثلا خلال مرحلة التخصص تكون سنة كاملة كافية لتعلم اللغة التي يدرس في منطقة نفوذها. ولم أسمع أن طبيبا درس بالعربية فشل في تخصصه بأوروبا أو أمريكا, بل يحتلون المناصب العلمية الكبرى. يجب الإشارة إلى أن التعليم العالي بالعربية لا يعني أن ننقطع عن تعلم اللغات الأجنبية، بل التعليم لا بد أن يكون باللغة الوطنية، فالطالب كما يتعلم العلوم المحضة يتعلم كيف يقرأ اللغة الأجنبية. يجب أن يكون القرار السياسي قرارا وطنيا، فمثلا الفيتنام في اليوم الموالي لاستقلالها قررت أن يكون التعليم بلغتها الأم، أي الفيتنامية. وسأسوق هنا مثالا عن وزير كوري كان في زيارة لبلد عربي فسأله زميل له عربي، ما هي اللغة التي تدرسون بها الطب في كوريا؟، فظن الوزير أن الذي طرح السؤال يريد أن يمزح معه، فلما علم بأنه جاد في سؤاله أجابه بالسؤال التالي: هل توجد أمة تحترم نفسها لا تدرس بلغتها؟ هناك أمم صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها خمسة ملايين، ورغم ذلك تدرس بلغتها، فما بالك بالأمة العربية. هذه اللغة ظلت لغة التعليم وبها كتبت مؤلفات الطب التي كانت معتمدة في أوروبا لمدة قرون، فلا إنكار حقيقة التاريخ مجد ولا إنكار حقيقة اللغة مجد؟ الدارجة نوع من انحطاط اللغة العربية وعلينا تنقيتها لتصبح أرقى - هناك توجهات تسعى إلى الدفع باللهجة الدارجة على حساب اللغة العربية؟ اللهجة الدارجة نوع من انحطاط اللغة الفصحى، فالدارجة تزول تدريجيا كلما استعمل الناس كلمات أفصح، إلى أن تقترب الدارجة من الفصحى وتصبح الدارجة مفهومة للآخرين. مثلا المصريون لا يفهمون الدارجة المغربية ولا يفهمون الدارجة العراقية، والعكس يحدث بالمغرب بسبب انتشار الفن المصري. أعتبر أن للدارجة تقاليد جميلة، يجب أن لا نقضي عليها، ولكن يجب أن نحسنها لتصبح راقية لا أن تكون ظاهرة انحطاط للغة. ولكن الخطورة هي القول بأن هناك لغات غير عربية تنافس العربية. هذا قول استعماري. الأمازيغية أو أي لغة أخرى في الوطن هي اللغة الأم بالنسبة إلى فئة معينة من أفراد الشعب، وعلينا أن نحافظ عليها ونطورها ونقويها لأنها لغتنا، فهل يجوز أن نترك مخلوقا حيا مثل اللغة يموت؟ لا يجوز أن نسمح بانقراض لغة ينطق بها جزء من أبناء الشعب. ما يقال عن الأمازيغية يجري على القبطية التي لا ينبغي أن تظل في الكنيسة. وأعتبر أن المتكلمين بهذه اللغات مواطنون لهم نفس الدرجة من المواطنة وضحوا من أجل حرية البلد. في الجزائر لم يميز الفرنسي بين أمازيغي وغير أمازيغي، وفي مصر لم يميز الاستعمار بين قبطي ومسيحي ومسلم؟ وبالمغرب هل شعر الأمازيغ أيام الحكم الفرنسي أن هناك مشكلة بينهم وبين العرب؟ لقد شاهدنا أن جيش التحرير في الصحراء كان يضم عربا وأمازيغ. لا ننسى أن الاستعمار حريص على فرق تسد وعلى إثارة كل أشكال النزاعات الإثنية والعرقية والطائفية، والدواء لكل هذا هو الوحدة لأنها قائمة منذ قرون، والذي يثير مثل هذه النزعات يمكن تصنيفه على أنه عميل للغرب. يجب أن لا ننسى أن اللغة العربية ليست لغة العرب فقط لأنها لغة القرآن الكريم، لذلك فإن اللغة العربية بالنسبة للعرب تحمل بالنسبة لنا معنى قدسيا، وتحمل نفس المعنى عند الأتراك أو الفرس أو غيرهم. ويجب أن نقرأ التاريخ جيدا، فعملاء الغرب من الأتراك عندما أرادوا أن يقضوا على الإمبراطورية العثمانية حاولوا أن يمنعوا العرب من تكلم العربية في بيوتهم، وهم كانوا يعرفون وقتها أن النتيجة الطبيعية لهذا القرار هو أن يثور العرب على الإمبراطورية. هؤلاء كانوا عملاء للحلفاء الغربيين وأعداء تركيا، وكان هدفهم هو أن يقصموا ظهر الخلافة فلجؤوا إلى هذا الأسلوب. وفي رأيي أن السياسيين الأتراك الذين حاربوا العربية هم عملاء لأعداء الإمبراطورية، وهم ليسوا وطنيين لأن الوطنية الحقة بالنسبة للأتراك هي المحافظة على علاقة الأخوة مع شعوب الخلافة، ومن جملتهم العرب. الحضارة الإسلامية لا تركز على من هو الطبري والرازي والنيسابوري، الذين ينتمون إلى قوميات مختلفة، فمثلا صلاح الدين الأيوبي كان كرديا, وهو الذي حرر القدس، والفارابي كان تركيا. إنها حضارة المساواة لا أحد يسأل الآخر من أين أتيت، بل هو مواطن عليه كل الواجبات وله كل الحقوق، وتقاليد احترام الآخر موجودة قبل الإسلام، غير أن هذا الدين جعلها قوانين ولم تعد موجودة بالعرف، بل بقوة القانون، فأصبح غير المسلمين أهل ذمة، ونعلم أن قاعدة المسلمين أنه «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى». خديجة عليموسى المساء