الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قرأت في الآونة الأخيرة مقالا لأحمد عصيد، يتهم فيه اللغة العربية بالضعف والقصور عن مسايرة المستجدات العلمية،وعن التعبير الدقيق عن معاني العصر. ولأني أشعر- كمثقف مسلم غيور على لغة القرآن-أن من واجبي أن أدافع عن هذه اللغة العظيمة،وأن أدحض الأقوال التي تنال من عزتها،وخاصة أني لاحظت أن مقال "عصيد " يفتقد إلى التمحيص والتدقيق،وأن صاحبه يلقي الكلام على عواهنه، ويكيل الاتهامات من دون سند علمي. وسأقتصر في ردي هذا على ذكر بعض الحقائق التي تدل على أن العربية استطاعت،منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا، أن تذلل أغلب الصعاب التي نتجت عن احتكاكها بغيرها من اللغات الإنسانية الأخرى،وأن تستوعب- بفضل مرونتها وخصائصها المتمثلة في الاشتقاق،والقياس، والنحت ،والتعريب ،والمجاز والترجمة- الكثير من المصطلحات الوافدة علينا، وأن تساير ركب التطور الحضاري. أملنا أن تفسح الأفكار الواردة في هذا الرد المجال أمام بعض المثقفين من بني جلدتنا، لمراجعة بعض الأفكار الخاطئة عن اللغة العربية ،والوقوف عند عظمة هذه اللغة، وسعتها في سد الحاجات العلمية والتكيف مع العصر. يقول الشاعر الراحل حافظ إبراهيم عن اللغة العربية: وسعتُ كتاب الله لفظا وغايةوما ضقتُ عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةوتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامنفهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي ******************** إن ما يميز اللغة العربية أنها لغة القرآن الكريم، بها تَنَزّل الكتاب العزيز على نبي الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وبها تُحقق الأمة وجودها(أليست اللغة مقوما أساسيا من مقومات الوجود) ،وتُرسخ هويتها وتبني حضارتها. ولما كانت العربية مرتبطٌ مصيرُها بكتاب الله جلت قدرته،فقد عني فقهاء اللغة- قديما وحديثا-بقضاياها،واستعمالها،وتطويرها،وجعلها تفي بمتطلبات الحياة،"وهذا ما دعا الباحثين إلى أن يقولوا إن كل ما كُتب في العربية،إنما كان خدمة للقرآن"(1).ولما كان التجدد والارتقاء سنة من سنن الله عز وجل،فقد استطاعت العربية بفضل دقتها،وحيويتها، وطواعيتها، ومرونتها وسعة مفرداتها[ليكن في علم "عصيد "أن عدد الجذور التي تشتق منها العربية مشتقاتها من مصادر، واسم الفاعل، واسم المفعول ،والصفة المشبهة...يزيد عن 6000 جذر] أن تنهض بصناعة المصطلح،وأن تفي بمتطلبات التقدم العلمي والتكنلوجي.ثم إن القضية المصطلحيةومسألة التفاعل مع الحضارات التي عاصرتها اللغة العربية ،ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي، يقول الأستاذ أحمد شفيق الخطيب"...فمنذ القرن الأول للهجرة، بدأت مصطلحات العلوم الإسلامية في الفقه والتفسير وعلم الكلام تترسخ وتعمّ، ثمّ تلتها مصطلحات كثيرة جدّا في السياسة والإدارة منذ أمر عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين، فأقبل الكتّاب من غير العرب على تعلم العربية، وطعّموها بمصطلحاتهم. ثم توالت مصطلحات الطب والكيمياء والفلك والطبيعة والفلسفة مع ازدهار الحركة العلمية برعاية المأمون بخاصة في بيت الحكمة،أول مؤسسة علمية لتعريب العلوم،على يد مترجمين محترفين كآل بُخْتَيْشوع وآل حُنين وآل موسَويه وآل قُرّة، وآخرون من أمثال ابن المقفع والبيروني وابن مسكويه...وتعاظمت حركة الترجمة والتعريب ،فما أن حل القرن الرابع الهجري حتى كانت لغة العلم والمعارف المختلفة قد تكاملت ،فعدت العربية لغة العلم وحاملة مشعل الحضارة في القرون الوسطى"(2). أما في عصر النهضة، فقد قام فقهاء اللغة بمواجهة التحدي المتمثل في هذا الفيض من المصطلحات الوافدة، فكانت تجربة كلية الطب عام 1826،وكلية الصيدلة عام 1830، ومدرسة المهندسين عام 1834 بمصر.وكانت جهود رفاعة الطهطاوي عام 1832في مجال الترجمة، وقد أورد الأستاذ قاسم سارة كلاما للطهطاوي ورد في كتابه "المعادن النافعة"،يدل على أن الرجل أولى للترجمة عناية كبيرة(3).وفي العام 1835،تم تأسيس مدرسة الألسن في عهد محمد علي باشا ،وكانت تروم نقل المعارف الغربية إلى العربية، وتخريج أساتذة متخصصين في مجال الترجمة... أما في القرن العشرين،فقد تأسس مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1919 لمسايرة المستجدات العلمية والنهوض بصناعة المصطلح. وفي العام 1934، أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة(مجمع فؤاد الأول) لتطوير أداء اللغة العربية في مجال الاصطلاح.ثم تأسس المجمع العلمي العراقي عام 1949(أصد ر هذا المجمع خلال الفترة الممتدة بين عام 1982 وعام 1995 عشرة مجلدات في مجال الاصطلاح العلمي والحضاري،هذا عدا المعاجم المتخصصة التي أصدرها قبل هذا التاريخ). وفي بداية الستينات من القرن العشرين ،تأسس مكتب تنسيق التعريب التابع للجامعة العربية(وفيما بعد بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1972). وكانت مهمة هذا المكتب إشاعة المصطلح الموحد من خلال طبع ونشر المعاجم الموحدة التي نسقها المكتب، وأقرتها مؤتمرات التعريب. وفي إطار العناية بالمصطلح العربي وقضايا اللغة العربية عامة، ُأنشئ عام 1976 مجمع اللغة العربية بالعاصمة الأردنية عمان (أصدر هذا المجمع إلى حدود عام 1998 تسعة عشر مصدرا من المصادر العلمية في حقول الرياضيات، والفيزياء ،والكيمياء، والأحياء وعلوم الأرض...). وفي العام 1982،انضم إلى مجامع اللغة العربية مجمع اللغة العربية بالخرطوم ، والمجمع التونسي المنبثق من "بيت الحكمة" بتونس... ولعلي أجد من المفيد هنا أن أذكر "عصيد" ببعض المنجزات التي قام بها مكتب تنسيق التعريب، والمركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر بدمشق،وهي منجزات تبرز دقة العربية في التعبير عن معاني العصر،وقدرتها الخارقة على التكيف مع الزمن.أما المعاجم الموحدة التي أصدرها مكتب التنسيق-كما أشار إلى ذلك أستاذ نا الفاضل أحمد شحلان(4)- فتشمل المجالات التالية: الفيزياء العامة والنووية/ الرياضيات/ الكيمياء/ الطب/ الصحة وجسم الإنسان/ الأحياء(النبات والحيوان) / التجارة والمحاسبة/ الجيولوجيا/النفط/ الحاسبات الإلكترونية/ الآثار والتاريخ / العلوم الاجتماعية والإنسانية / اللسانيات/ الموسيقى / الاقتصاد / القانون / التعليم التقني والمهني / الكهرباء/ الطباعة (هذا عدا مشروعات المعاجم الخاصة التي قدمت فيما بعد إلى مؤتمرات التعريب،والتي تهم مصطلحات: الزلازل،الطاقات المتجددة،البيئة، المياه،الاستشعار عن بعد،المياه،الإعلام، التقنيات التربوية، ،الأرصاد الجوية،الهندسة الميكانيكية،المعلوماتية،علوم البحار، الصيدلة،الطب البيطري،تقنيات الأغذية،المورثات،الحرب الإلكترونية والإجراءات المضادة،إلخ...).وأما المؤلفات العلمية الصادرة عن المركز العربي للتعريب بدمشق،فنذكر منها على سبيل المثال: هندسة الفيزياء النووية/ هندسة المفاعلات النووية(وهو في جزأين) /الإشعاع النووي والوقاية من الإشعاع والتلوث/الاتصالات بالألياف البصرية / معالجة الصور الرقمية / الأسس الفيزيائية لليزرات التقانية / الجيوفيزياء التطبيقية / معالجة المواد المعدنية بالليزر... يضاف إلى ذلك الجهود الفردية التي توجت بإصدار العشرات من المعاجم المصطلحية(معجم المصطلحات الطبية والطبيعية لمحمد شرف،معجم المصطلحات الزراعية لمصطفى الشهابي،معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية لأحمد شفيق الخطيب،المعجم الطبي الصيدلي لعلي محمود عويضة،والقائمة طويلة...).هذه هي بعض الجهود الجماعية والفردية التي تبذل في سبيل تعريب العلوم، ذكرت بعضها وأغفلت عن بعضها الآخر، أردت بها فقط لفت انتباه"عصيد" إلى قدرة العربية على مسايرة العصر بفضل خصائصها المتميزة،ومفرداتها الغنية التي تمكنها من التعبير عن الدلالات المختلفة والأغراض المتنوعة. فالعربية تضع أمام المختص في مجال الاصطلاح وسائل عدة وطرائق لغوية مختلفة ،تمكنه من اختيار اللفظ الفني المناسب. فقد يلجأ فقيه اللغة إلى الاشتقاق؛ فيشتق من صيغ الفعل -وهي كثيرة- مصادر بأوزان مختلفة(مصهورية، منقولية، مطروقية على وزن مَفْعُوليّة،-نبضان،غليان على وزن فَعَلان-صُداع،كُساح،سُعال،نُكاف على وزن فُعَال- حفيف ،هدير على وزن فَعيل... )،وصفات مشبهة بصيغ متنوعة(صَهور،بَيوع،سَدود،مَرون،لَهوب (5)على وزن فَعُول...)،إضافة إلى أسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان... وقد يستعين الباحث اللغوي بالنحت، فيختزل كلمتين في كلمة واحدة:حَلْمَأَ(تحلل بالماء)- جيوفيزيائي-بتروكيماوي-حَرْنَوي(حراري نووي)-كهرُمَغنيطي،كهرُضوئي،برمائي.وقد يعرِّب اللفظة الأجنبية : أكوستيكي- بيولوجيا،سليكون،ألمنيوم...،وقد يأخذ بمبدأ القياس؛فيقيس على كلام العرب:تأكسد، تجرنت،تفرنس ...على وزن تَفَعََْلَلَ ،أو يعتمد المجاز إذا اقتضت الضرورة ذلك(عدسة...). هذه ،إذن ،هي العربية؛لغة الإبداع والاختراع والعلم والرقي والحضارة،اللغة التي أراد صاحب المقال الحط من شأنها، وتبخيسها في أعين الناس،حتى يفقدوا الثقة بها ،ويفرطوا في هذا الصرح العظيم. كثيرة هي الاتهامات التي كالها"عصيد" في مقاله الذي خصصه للهجوم على العربية،ولكني أقول له :هات دليلك فيما أثبته من اتهامات في حق أرقى لغة عرفتها البشرية،عندما اتهمتها بالضعف والعجز عن استيعاب التقدم العلمي،ومواكبة العصر.إن الكاتب يطلق الكلام على عواهنه،و لم يسق ولو دليلا واحدا يدعم به رأيه، وهذا لَعُمْري أقصى درجات الاستخفاف بعقل القارئ الذي يريد الكاتب أن يقنعه بوجهة نظره من دون تمحيص ولا تدقيق،وبالتالي فإن "عصيد" يضرب عرض الحائط بأبسط الشروط التي يجب أن تتوفر في من يتصدر للكتابة ،وهي الموضوعية. خلاصة لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم {{الله أعلم حيث يجعل رسالاته}}(الأنعام-124)،وأن تكون هي اللغة التي تؤدى بها الرسالة الخاتمة،ولقد سخر الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة من يحمي لغتها ، ويدافع عنها،ويعتني بتطويرها، وتجديدها وتنميتها ،لأن هذا مربوط-كما يقول الأستاذ ناجي عبد الجبار...-"بوازع عقائدي ،إذ الأمر واجب مقدس تجاه لغة أقدس كتاب سماوي"(6).وفي إطار هذه المسؤولية الملقاة على عاتق فقهاء اللغة ،صارت المسألة المصطلحية أكبر همهم، وشغلهم الشاغل؛فشمروا عن ساعد الجد،فكدوا وكدحوا من أن أجل أن تكون هذه اللغة لغة المعبد والمختبر والمعهد وجميع حقول المعرفة الإنسانية. فكان لهم ما شاء الله أن يكون: معاجم مصطلحية تهم حقولا شتّى،ومؤلفات في مختلف التخصصات العلمية الدقيقة... وستظل هذه اللغة شامخة بفضل الله عز وجل وبفضل جهود علمائها،وفية لأهلها،صامدة في وجه الأعاصير،منفتحة على عصرها، بارعة في الأداء والتعبير وقادرة على استيعاب العلوم الحديثة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. *************** -1العربية طرق تفكير ومناهج بحث، اللسان العربي، 38، 1414ه / 1994م،ص11. -2اللسان العربي،39، محرم 1416ه/ يونيو1995م،ص 145-146. -3التعريب،جهود وآفاق،دار الهجرة،دمشق-بيروت، 1409ه / 1989م،ص 187. -4منظومة التنسيق:المفهوم والإجراء،اللسان العربي، 47، ربيع الأول 1420ه / يونيو 1999م،ص 33-34.هذه المعاجم صادقت عليها مؤتمرات التعريب في الفترة الممتدة بين عام 1973م وعام 1987م. -5هذه الألفاظ المولدة من اقتراح الأستاذ أحمد شفيق الخطيب. -6تطوير منهجية وضع المصطلح العربي ، وبحث سبل نشره وإشاعته،اللسان العربي، 39، محرم 1416ه/ يونيو 1995م، ص 107.