– المختار الخمليشي (صور زكرياء العشيري): أصيلة مدينة يحيا فيها المبدعون والمفكرون حتى بعد رحيلهم إلى العالم الآخر، فهي المدينة التي تكرم وفادة ضيوفها خلال حياتهم ولا تتنكر لهم أبدا بعد مماتهم. ذلك ما تدل عليه عدة نصب تذكارية تتوسط سبعة من بين أروع فضاءات هذه المدينة الصغيرة المسترخية على ضفاف المحيط الأطلسي، على مسافة 40 كيلومترا جنوب عروس البوغاز طنجة. سبعة حدائق غناء تحمل أسماء سبعة من أهرمات الفكر والثقافة والإبداع، تتوزع بنسق جميل في مناطق مختلفة من أصيلة، لتبرهن للجميع، أن وفاء هذه المدينة نبع لا ينضب اتجاه أعلام عشقوها وداوموا على زيارتها قبل انتقالهم إلى العالم الآخر، فبادلتهم حبا وخلودا بين أحضان فضاءات يحس المتواجد فيها بنعيم الهدوء والطمأنينة بعيدا عن ضجيج المدن الكبرى. عند مدخل المدينة القديمة بساحة وادي المخازن،مساحة صغيرة، يفوح وسطها عبير الزهر والنبات الموزع على جنباتها بعناية كبيرة، سرعان ما يمتزج بأريج أجمل ما جادت به قريحة أحد هؤلاء الأعلام الخالدة أسماؤهم في أصيلة. بلند الحيدري، شاعر عراقي رحل إلى دار البقاء سنة 1996، تاركا عطاء أدبيا غزيرا، ما زالت بعض شذراته منقوشة على نصب تذكاري، يبدو من خلالها كأنه يغازل هذه المدينة، لا سيما المقطع القائل " انتظري يا نجمة فجري.. ها أنا ذا آت من آخر ما تحمل مرآتي من ذكرى". "بلند الحيدري"، ليس الوحيد الذي ما زالت ترفرف روحه في سماء مدينة أصيلة حتى الآن، فعلى يسار الحديقة التي تحمل اسمه، يرقد رفيق له في درب العطاء الأدبي، ليس برفاته، ولكن باسمه وشعره الذي خلده نصب تذكاري، يحمل وصف "حديقة تشيكايا أوتامسي"، نسبة إلى الشاعر الكونغولي، جيرالد فيليكس تشيكايا أوتامسي (1931-1988)، الذي ظل منذ لحظة حلوله بهذه المدينة سنة 1981، هائما في عشقه وحبه لها.
وغير بعيد عن ساحة واد المخازن، تنبسط حديقة أخرى على مساحة واسعة، تحمل اسم المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، الذي أثرى الساحة الفكرية العربية بعطاء غزير منذ ستينيات القرن الماضي، إلى أن اختطفته يد المنون سنة 2010، ليبقى اسمه حاضرا في وجدان المفكرين والكتاب، مثل حضوره في هذا الفضاء الشاسع من أصيلة. وعلى مقربة من ساحة محمد الخامس، توجد كذلك حديقة باسم الشاعر الفلسطيني "محمود درويش"، وكأن أصيلة تريد أن تقول للجميع، إن درويش، الذي كان يمشي خلال حياته منتصب القامة ومرفوع الهامة، ما زال كذلك حتى اليوم .. ولا شك أنه نفس المغزى من تسمية حديقة أخرى باسم الكاتب والروائي السوداني، الطيب صالح، الذي حمل خلال حياته لواء "موسم الهجرة إلى الشمال"، وأعمال أدبية عديدة. ولأبناء أصيلة المبدعين أيضا، نصيب وافر من الوفاء والخلود في مسقط رأسهم، والحديث هنا عن الشاعر والكاتب الزيلاشي، أحمد عبد السلام البقالي .. وعلى إطلالة من بوابة مكتبة الأمير بندر بن سلطان، تنبسط حديقة الكاتب المغربي محمد عزيز الحبابي، في مشهد وفاء يجسده هذا التجاور بين معلمة ثقافية حديقة غناء ترفرف فوقها روح هذا الهرم الأدبي، كما يرفرف الطير في سماء أصيلة منتشيا بهوائها وبحرها وحدائقها الخضراء.