بقلم : رشيد بن الحاج : فقدت مدينة طنجة مساء يوم الثلاثاء المنصرم 27 يناير 2015 أحمد طريبق أفيلال أحد أعمدة الفن التشكيلي الذي انطفأت أنفاسه في صمت بعد معاناة مع المرض وبعد مسيرة فنية تشكيلية حافلة بالعطاء والتميز .وبوداعه تكون الساحة الفنية المغربية قد فقدت علامة مضيئة و قامة إبداعية سامقة أثثت مشهد الفن التشكيلي المحلي والوطني بالكثير من الأعمال الفنية التي ستظل شاهدة على توهج موهبة المرحوم التشكيلية وعمق إحساسه وسعة عطائه . ولد المرحوم أحمد أفيلال بمنطقة جبل حبيب سنة 1949، ثم انتقل إلى مدينة تطوان ليلتحق بمدرسة الفنون الجميلة بعد أن برزت موهبته الفنية في الرسم ، ثم ما لبث أن سافر بعد ذلك إلى إسبانيا لإتمام دراسته ليعود لاحقا إلى مدينة طنجة التي استقر فيها بعد أن عين مدرسا لمادة التربية التشكيلية . لقد بصم المرحوم أحمد أفيلال مساره الإبداعي بالعديد من الأعمال الفنية ، وحقق حضورا وازنا في ساحة الحركة التشكيلية الوطنية والمحلية ، كما أقام سواء بشكل فردي أو مشترك العديد من المعارض التي احتضنت لوحاته المتفردة والتي لاقت إقبالا لافتا من طرف المتلقين بفضل ما زخرت به من عبق الألوان وسحر الظلال والجمال ومن دفء الأحاسيس وتشابك الدلالات وتنوع الإيحاءات . لقد رحل عنا إلى دار البقاء الصديق والفنان المبدع أحمد أفيلال وترك مكانه شاغرا بيننا . فماذا عساني أن أقول بعد رحيله ، حقا ، إن الكلمات لتأبى أن تطاوعني لإيصال ما يعتمل في صدري حيال هذا المصاب الجلل. لقد عرفت المرحوم منذ سنوات طويلة ، وربطتني به ذكريات عديدة سوف تظل خالدة ما بقي في القلب نبض . عرفت الصديق أحمد أفيلال فنانا أصيلا وعصاميا ، واسع الإطلاع والمعرفة في مجال الفن التشكيلي ، وبالرغم من أنه استطاع أن ينقش لنفسه مكانة مرموقة في الساحة التشكيلية بعد أن ذاع صيته محليا ووطنيا إلا أنه لم تكن الشهرة لتغريه ، ولا الأضواء لتستهويه ... لقد عرفته إنسانا زاهدا ومتواضعا وبسيطا في ملبسه ، ودودا بشوشا ، دمث الأخلاق، حلو المعشر ، فكه الحديث ، محبا للنكتة ، ميالا إلى المزاح ، دائم المرح ، محبا للحياة بالرغم من المرض المزمن الذي كان أحيانا ينغص عليه حياته إلا أنه كان يتعايش معه بجلد و برباطة جأش .. وإن نسيت فلا أنسى أنني كنت كلما لقيته في السنوات الأخيرة إلا و لمحت مسحة حزن خفيفة تلمع في وجهه البشوش ، غير أني لم أكن أدري مبعثها . ولا أخفي أنني كثيرا ما كان فضول التقصي يستحثني لأتجاسر عن سؤاله عن سر ذلك الحزن إلا أنني ولرهافة إحساسه كنت أخفق . مازلت أذكر أنني كنت قد تعودت أن ألتقي به رحمة الله عليه بعد خروجنا من مقر عملنا ، فنسير معا جنبا إلى جنب نتجاذب أطراف الحديث وننكت. كان يتكلم أكثر مما أتكلم، وكان يستهويني حديثه عن عالم الفن التشكيلي ،فكان يحدثني حديث الخبير العارف المطلع عن الألوان ودلالاتها ، عن التشكيل وآفاقه ، عن الأضواء ومتاهاتها ، عن الخطوط وتموجاتها ، كنت أتلقف كل ما يبوح به وكأنني أستمع إلى محاضرة... كان الرجل رحمة الله عليه يملك رؤية فنية وجمالية راقية ومتميزة ... فكنت لا أملك إلى أن أصغي إليه باهتمام وفضول ...أذكر أن من عادته أنه أثناء سيرنا الوئيد ، كانت الكثير من الأشياء التي تتراءى أمام ناظريه تستوقفه ، فكان يتطلع إليها بتأمل وتدبر ، منها المنازل و البنايات والشجيرات ووجوه المارة ... كان يخيل إلي وقتئذ أن الأرض بكل مكوناتها وبكل ما تعج به من سكون و حركة توحي إليه وهو الفنان بغير ما توحي إلي...فكان يتوقف من حين لآخر ثم يوزع نظراته ويتملى بكل جوارحه وأحاسيسه من بهاء الأمكنة والمباني العتيقة والحديثة ، فكنت أحس أنه ينصهر و يتفاعل معها ولم يكن لينتزعه من عالمها إلى صوت كلماتي ...إنني ما أزال حتى اليوم أتمثل أجواء تلك الأوقات التي كنت أصرفها معه ونحن نسير معا ، لقد كانت حقا أوقاتا جميلة ، نهلت خلالها من معين علمه التشكيلي الفياض الكثير الكثير . ولعل من الذكريات التي ما زالت تلمع في ذاكرتي ، أنني صادفته قبل أشهر معدودة قبالتي سائرا يتلمس الطريق بخطى وئيدة ، فبادرته بالتحية بعد أن شعرت أنه لم يتبين ملامحي ، فرد علي بصوت واهن وهو يتطلع إلى وجهي مدققا النظر كما لو كان لا يعرفني ...سألته عن صحته وأحواله وعن جديد نشاطه الإبداعي ، فتهلل بعد ذلك وجهه وارتسمت ابتسامة على شفتيه فلم يملك بعد أن تعرف علي إلا أن أمسك بذراعي ثم تنحى بي جانيا كما لو كان يريد أن يهمس لي بما في جعبته من أسرار ... أذكر أنه وقتئذ أخبرني بأنه توقف عن الرسم بعد أن أصبح يعاني من ضعف البصر بفعل مرض " الجلالة " الذي أصاب عينيه كما أخبرني أن الطبيب نصحه بإجراء عملية إلا أنه أبدى لي تخوفه منها ... حاولت رفعا لمعنوياته أن أقنعه بإجرائها متحججا له ببساطتها ... كذلك تواصل حديثنا وتشعب فلم نملك بعد ذلك إلا أن انطلقنا معا في جولة قصيرة حدثني خلالها في حسرة عن آلامه مع المرض والفراغ وعن آماله في تشييد مرسم كبير يشتغل فيه ... لكن الموت باغته بلا استئذان قبل أن يتحقق ذلك المبتغى. فوداعا يا صديقي أحمد أفيلال ، وداعا أيها الفنان العصامي المبدع الطريف ، لقد رحلت عنا في هدوء وفي صمت وتركت في نفوسنا غصة وفي عيوننا دمعا وفي قلوبنا فراغا ... كنت آمل أن أكتب عنك وأنت حي بيننا تكريما لشخصك و تقديرا لأعمالك ، لكن الموت الذي تخطفك في غفلة منا كان أسرع من تحقيق ذلك الأمل ... ولكن ماذا عسانا أن نفعل ؟ إنها مشيئة الله ولكل أجل كتاب ، فحمدا لله على ما أعطى وحمدا له على ما أخذ... ستظل يا أحمد حاضرا في وجدانا و في ذاكرتنا ... لن ننساك يا أحمد ونأمل أن يتداعى محبوك و رفقاؤك في درب التشكيل للتعريف بك وبأعمالك تقديرا وتكريما لقامتك الفنية الشامخة التي افتقدناها .
رحمك الله يا أحمد أفيلال وأكرم مثواك وأسبغ عليك شآبيب المغفرة وأفرغ الصبر الجميل على أهلك وذويك ومحبيك.