– محمد سعيد أرباط: عاش الانجليز 22 سنة في طنجة (1662-1684) ثم تركوها رغما عنهم للمغاربة مخلفين ورائهم طنجة مدمرة تدميرا شبه كامل، وهو التدمير الذي حز في قلوب شعرائهم الذي تباكوا برومانسية غريبة، ليس على ضياع المدينة الجميلة وموقعها الفريد، وإنما بكاء على ضياع أموال هامة على منطقة لم تقدم شيئا يذكر للعرش البريطاني. وهزيمة الانجليز أمام المغاربة كانت مسألة حتمية مهما طال الوقت، فبغض النظر على العوامل الاخرى المعروفة لسقوط طنجة كبعد المسافة عن انجلترا وتأخر الامدادات في فترات الشدة، فإن الانجليز على عكس البرتغاليين، ارتكنوا إلى حياة الرفاهية والهدر وشرب كؤوس الخمر. وكان عدد سكان طنجة الجدد في البداية عندما تحولت إلى قبضة الانجليز يترواح ما بين 1000 و 2000 نسمة، أغلبهم جنود وبحارة ونساء وأطفال هؤلاء، وكان من بينهم أيضا، عدد مهم من الجاليات الاوربية كالاسبان والفرنسيين والإيطاليين، إضافة إلى بعض اليهود الذي اتهموا بالجاسوسية فيما بعد وتم طردهم من المدينة سنة 1677 م. ومع مرور السنوات تزايد عدد السكان بشكل مطرد، وقد انضاف إلى العناصر السابقة بعض الاسرى من المغاربة والأتراك العثمانيين الذين تحولوا إلى عبيد يخدمون أسيادهم الانجليز ذوي الرتب العالية بالمدينة، وكان عدد هؤلاء الاسرى يقترب من 100 فرد. ومنذ البداية شرع الانجليز في اعادة تحصين أسوار المدينة، وبناء مرفأ طنجة الذي أُعتبر كأعظم الاعمال الهندسية في تلك الفترة، وكان قد بني من طرف الخبير "هاغ كولملي" (Hugh Cholmley) الذي درس مرفأ مدينة جنوة الايطالية قبل أن يشرع في بناء مرفأ طنجة ب 200 عامل، وقد تم بنائه ب 167.251 طن من الأحجار، وبحوالي 500 مترا ممتدة داخل البحر، وبارتفاع حوالي 6 أمتار. وبعد انشاء مرفأ المدينة وتحصين أسوارها، بدأت الحياة اليومية في المدينة تسير إلى روتين غلف حياة الانجليز بطنجة من البداية إلى النهاية، فالجنود كانوا مكلفين بحراسة المدينة ويدخلون في مناوشات بين الفترة والأخرى مع المغاربة التي تنتهي في الغالب بارتداد المغاربة عن أسوار طنجة مستسلمين أمام صلابتها. وكان البحارة هم العنصر الثاني الطاغي على باقي العناصر الاخرى في المدينة بعد الجنود، وكانوا هم من يزودون السوق المحلي بالمنتوجات السمكية اللازمة، إضافة إلى السلع والحاجيات الضرورية للساكنة التي كان يتم جلبها من اسبانيا ومناطق أخرى، وهم من كانوا يعملون على جلب الاسرى وبيعهم كعبيد للخدمة في طنجة. وكان الانجليز يلتقون جميعا في الغالب أيام الآحاد لتأدية صلواتهم بالكنيسة الانجليكانية، التي كانت في السابق كنيسة كاثوليكية بناها البرتغاليون قبل أن يحولها الانجليز منذ دخولهم إلى كنيسة انجليكانية، وكان موقها يوجد بالقرب من مكان وجود المسجد الكبير لطنجة اليوم. كما أنهم قاموا بانشاء مدرسة وسط المدينة، تخصصت في تدريس أطفال الجنود والبحارة، وكان الكولونييل والسياسي الانجليزي البارز "ستافورد فايربورن" (Stafford Fairborne) قد ولد بطنجة ودرس بهذه المدرسة، وهو ابن الكولونييل ((Palmes fairborne الذي قتله المغاربة سنة 1680 وهو يدافع عن اسوار طنجة. ورغم التهديد الدائم والقائم من طرف المغاربة خارج أسوار طنجة، إلا أن ذلك لم يكن رادعا للانجليز للاستمتاع وعيش حياة الرفاهية، فقاموا ببناء ما كانوا يطلقون عليه في تلك الفترة اسم "بيت المتعة" (The house Of Pleasure)، وكان موقعه خارج اسوار طنجة حيث كان يجتمع الضباط والشخصيات الراقية من الرجال والنساء، لشرب الخمر وأكل الفواكه ولعب لعبة البولينغ. وفي حصن اخر داخل المدينة سمي فيما بعد، حصن الملك تشارلز الثاني، كان يعد من الامكنة البارزة والهامة بالمدينة آنذاك، حيث كان يلتقي اسياد طنجة من الانجليز لقضاء أوقات الفراغ في الدردشة وشرب الخمر والرقص والغناء، وكان هذا الحصن محاطا بحديقة جميلة حسب الكاتب الانجليزي (Routh) في مقال نشره سنة 1911 تحت عنوان "الانجليز في طنجة". كما أن الجنود حولوا مستودع للتخزين بقلعة يورك "York Castle" الذي يطل على مضيق جبل طارق، وهو برج القصبة القريب من باب البحر اليوم، حولوا ذلك المخزن إلى فضاء عبارة عن مسرح كانت تقام فيه بعض المسرحيات الانجليزية القديمة للترفيه عن الجنود وساكنة المدينة. لكن حياة الرفاهية هذه لم تدم طويلا، إذ سرعان ما أجبر الانجليز على ترك المدينة أمام الهجمات القوية للمغاربة، فأمر الملك تشارلز الثاني أثناء عملية الاخلاء بتدمير طنجة التي لم يكن لها أية فائدة تذكر، وقد تسببت في خسارتهم لأموال طائلة دون جدوى، فالمرفأ وحده كلف مليون جنيه استرليني لبنائه، هذا بدون الحديث عن مصاريف الجنود لحماية طنجة خلال المعارك ضد المغاربة. ورحل الانجليز عن طنجة سنة 1684 م بعد 22 سنة فقط من حياتهم بهذه المدينة، وهي الحياة التي تميزت بنوع من الرفاهية التي كانت ربما من أحد أسباب انهزامهم أمام المغاربة كما قال بيرسي كيرك (Percy Kirke) الذي ولي حاكما للمدينة سنة 1682 " أغلب الرجال (الانجليز) في طنجة قتلوا بالبراندي أكثر مما قتلوا من طرف المغاربة" والبراندي هو نوع من الخمر.