يظهر أن لا مكان للمواطن العادي في قنواتنا التلفزيونية العمومية، وبرامجها بالعربية والفرنسية والتركية وحتى الهندية، وأن كل حضور له بها لا يكون إلا عن طريق وصي عليه لم يخْتَره من حكومة أو أحزاب أو نقابات، ودون تفويض حقيقي منه يسمح لهم بذلك، اللهم تلك الأصوات التي جعلت من هذا الطرف حكومة صاحب الجلالة، ومن آخر معارضة صاحب الجلالة، فيما يستمتع شعب صاحب الجلالة بالفرجة المضحكة أحيانا، والمبكية غالبا. ولا وجود لرأي المواطن الحقيقي الذي لا أحد يتقن لغة الإحساس بالظلم والقهر إلا هو، ولا يعرف للحكرة معناً غيره، ولا يمكن لأحد سواه توضيح المفضحات من الواضحات للعيان، الغامضان للأعيان، من معانات هذا وذاك مع العيش ورغيف العيش. نعم لا وجود لرأيه إلا في تصريح من هنا، وآخر من هناك، وشهادات تقدم على أنها رأي الشارع، غير أن الشارع طويل وعريض، وفيه من الزوايا والأركان ما تحفي الواقع المر، وما خفي كان أعظم. وإذا كان الحياد شعار الإعلام العمومي، ولكل الحق في الحديث والظهور به على حد سواء، فإن من المواطنين من لهم الحق في ذلك أيضا، كونهم يعتبرون أنفسهم طرفا ثالثا في هذه المعادلة غير العادلة، فهم البرآء من الحكومة والمعارضة بأحزابهما ونقاباتهما، ولا ينبغي إقصاؤهم من التعبير عن آرائهم التي ربما يكون فيها ما هو مفيد للوطن والمواطنين، ولعل هذا ما يجعلنا نقتحم أحيانا نقاشات عامة الناس من الذين لا ينتمون لهذا ولا ذلك، حيث نجد من الكلام ما ينبع من الغيرة عن الوطن، ومن الإحساس ما يعبر عن سخط على وضعية أريد لها أن تظل عنوان الحال، بعيدا عن سُعَار أولائك المدافعين عن أفكار طرف يعنيهم، وقد كانوا بالأمس لها رافضون. وسبحان مغير الأحوال كيف تتضح الصور، وتنجلي الغمائم عن البشر، حتى بتنا نكتشف للناس وجوها لم نكن نعرفها، وتقلبات في مواقف ألقت بكل المبادىء في قمامات الماضي البئيس، وكأن الأمس لم يكن، أو لم يكونوا هم به حاضرون.
ومباشرة معكم، وبعد إضراب قيل أنه وطني وعام، رغم أننا لا ندري ماتحقق منه أوبه أومن خلاله، إلا ما نعلمه علم اليقين أن الضريبة ستكون قاسية خصوصا على بعض العاملين بالقطاع الخاص الذين سيطرد منهم الكثيرون، دون أن تنفعهم نقابات الشؤم تلك التي لم تحسن حتى توضيح الرؤية والناس تتفرج..!، أقول حضرت الحكومة موضحة ومعللة قراراتها، واضعة كل شيء بحساباته، والحقيقة أننا لم نجد في ذلك إلا دفاعا عن رؤية أناس رسموا مسالك تخرجهم من جحيم مسؤولية قد أحسوا أخيرا حرارة لهيبها إلى بر الأمان، ولهم الحق في ذلك بما لديهم من قدرة الحل والعقد، وبما أن التماسيح والعفاريت والأرانب وذاك الشي... لم تعد تجيد إلا النباح المباح وغير المباح، ثم أن الأيام والسنين أكدت أن الذي ينبح لا يعض، فلا خوف إذاً على الحكومة وقراراتها، ولا فائدة من إضراب انتهى على شاشة القناة الثانية، في حلقة سبق للسي كبور أن قدم خلاصتها " مَا كَايْنْشِي مْعَامْنْ ". ولو حضر البرآء من الحكومة والنقابات النقاش البئيس ذاك لقالوا ماينبغي قوله لهؤلاء وأولائك، ولبرهنوا أن المواطن يعلم جيدا كيف تُدبر الأمور، وكيف ينبغي لها أن تُدبر، ولطرحوا الحلول والبدائل التي عجزت النقابات طرحها في وجه حكومة فشلت في تحقيق أبسط حلم راود الناس لعقود من الزمان، بأن يحاسب المفسدون بفسادهم، والمجرمون بجرمهم، والمسيؤون في تدبير أموال الشعب بسوء تدبيرهم، لا أن يتم تصحيح أخطائهم ، وتعويض اختلاساتهم من جيوب شعب سئم تكاليف الحياة.
لو حضر البرآء لفضحوا المستور والمسكوت عنه من الطرفين، فهم يعلمون جيدا ما تمسكه الحكومة على النقابات، وما تمسكه النقابات على الحكومة، ويعلمون أن ما يُمَثل أمام الناس على التلفاز إنما هو مشهد يُروج به لديمقراطية مزعومة، تترك الراكب راكبا لا تزحزحه عن مكانه، والنازل نازلا لا ترفعه ولو درجة، ولا تُغير في الأمر من شيء. فالذي لم يستطع ومنذ عقود ضمان حق الإضراب دون التعرض للطرد، وحق التعويض عن فقدان الشغل في حالة الطرد، لا يحق له التكلم باسم الطبقة العاملة، وكرونولوجيا العمل النقابي بالمغرب شاهدة على إقفال معامل كثيرة، وتشريد الآلاف من المناضلين والمضربين والنقابيين الذين تسلق الكثيرون على ظهورهم قبل تنكرهم لهم، فماذا بعد؟
الإصلاح طرقه معلومة ولا مجال لمغالطة الشعب، ففي المغرب فئة قليلة تستفيذ من كل شيء ولا تفيد في شيء، وفئة كبيرة تفتقذ لأدنى شيء وعليها إصلاح كل شيء. أناس ينعمون بخيرات البلد ويعيشون خارجه، وأناس محرومون من خيرات البلد وبالكاد يعيشون. أناس استفاذوا من المغادرة الطوعية مع ما حملوه معهم من ملايين وراتب شهري، وأناس عليهم العمل حتى يحين موعد الدفن فيغادرون العمل والدنيا معاً. أناس استفاذوا وأهلهم وعيالهم من كريمات حتى صاروا من أغنى أغنياء البلد، وأناس تحبسهم الثلوج لشهور لا يذوقون فيها من النعم غير الخبز والزيت. رجال ضحوا بأرواحهم فداءا للوطن وماتوا ولم يتركوا لأيتامهم سوى رواتب حقيرة، وبرلمانيون ووزراء يغادرون الكراسي بتقاعد لا يحلم به غيرهم. هكذا هي صورة المغاربة لم تتغير، ولن يغيرها إضراب التاسع والعشرين من أكتوبر، ولا وعود رئيس الحكومة بأخبار سارة، ولا نرفزات ممثلة النقابات في مباشر معكم، بل تغيرها إرادة حقيقية في الإصلاح وتحقيق السلم والعدالة الاجتماعية، فمرحبا إذاً بقراراتكم وزياداتكم، وكما قال الشاعر: واتقل علينا بالمواجع ... احنا اتوجعنا واكتفينا وعرفنا مين سبب جراحنا ... وعرفنا روحنا والتقينا عمال وفلاحين وطلبه ... دقت ساعتنا وابتدينا.