" الحاجة إلى الكتابة عندي هي نفس الحاجة إلى المحو والتشطيب. أما بذرة القلق الكامنة في أعماقي فإنها تجعلني لا أستريح أبدا إلى ما أكتبه أو أكون قد كتبته." " إن الكتابة سفر متواصل في ليل الروح." محمد بنطلحة .1. أعترف أنني لم أستطع الاقتراب كثيرا من حرائق كتاب" الجسر والهاوية" للشاعر المغربي محمد بنطلحة. ففي متنه ما هو منذور لمن في مثل قامة صاحبه. أما أنا فقد حاولتُ قدر الإمكان أن أقرأه، وأن أدفئ أصابعي و ليل روحي لا غير. ولعلّي احترقت. في هذا الكتاب الضخم، صغيرِ الحجم، تكثيف مروّع واختزال مبهر لأشد الأفكار إثارة للجدل وشهوة للكتابة والقراءة. لا أجوبة، إنما إشكالات تُلقى حول العلاقة بين النثر والشعر، وبين الشعر والفكر والمعرفة والحياة، ومهمّة الشاعر ووضعه الاعتباري، وعلاقته (بالذات، بالتاريخ، بالذاكرة، وباللغة ص11)، وولادة القصيدة ومراميها، وحدود المتخيل والواقع فيها. في هذه السيرة الشعرية غير المكتملة ملامح من سيرة حياة، حيث مكان الولادة، وأزقة فاس العتيقة، ومدرسة الشعب، وأول قصيدة تنال إعجاب الشاعر(من أغاني الرعاة/ أبو القاسم الشابي)، وثانوية النهضة، والتحاق بنطلحة بكلية الأداب ظهر المهراز عام 1968. ثمة أيضا كتابة عن الطفولة بلا حنين، وعن الأمكنة والمدن؛ مراكشوفاس وغرناطة، وعن النساء بلا أسماء، أوبأسماء(سندريلا. وإيزيس، أستاذة علم الأحياء.ص41). هي إشارات يتكئ عليها الشاعر لخلق أسئلة تعمل على توليد أخرى. وهكذا دواليك. وإذا كان بنطلحة قد نشر أولى قصائده سنة 1970، فهو لا ينتمي إلى جيل السبعينيات، ولا إلى أي جيل. إنه جيل بأكمله. ولمن لا يعرفه تكفيه قراءة هذا الكتاب النثري ليكتشف شاعرا كبيرا واستثنائيا تشي به لغته، وتفضحه عناوينه وعباراته الباذخة؛ (نزهة على الأقدام في بحر الظلمات. ساحة الرياح الألف. فواكه مسروقة. أنا آخر المحائين. لا تنم ورأسك إلى االجنوب.) وغيرها. والقصيدة عند الشاعر ترتكز على أمرين اثنين؛ أولهما الاشتغال العميق على اللغة؛ لغة مختلفة (تنشغل بضجيجها الداخلي ص10) عوض الاكتفاء بالوصف المادي للعالم وللأشياء، وإعادة إنتاج نفس المعنى الذي تخلّفه الكلمات. لغة جديدة تعمل على (دفع الكلام إلى أقاصيه، أي تشغيل جميع ممكنات اللغة دفعة واحدة في وقت واحد ص7). وثانيهما (استنفار سائر الطاقات الاحتياطية التي تقبع في سراديب الذهن البشري ص7). أما الشاعر فهو (يلتقط مادته من مصادر جد متنوعة: عناصر من اليومي والمعيش، انحرافات للفكر في الحلم، قفزات في فضاء اللاوعي، إفرازات أحلام، ارتدادات إلى الطفولة، وأجواء لا تحصى. ص12). بهذه الأجواء اللاتُحصى و( كسر شوكة اللغة ص8) يخلق الشاعر كتاباته؛ تلك التي لا يسهل القبض عليها شعرا ونثرا، فتدخل عوالمه بلا سلاح ولا يقين، ولا تحصد سوى الدهشة والرهبة. يولي الأديب بنطلحة أهمية قصوى للّغة، عليها يبني نثره وشعره. أليست( اللغة أول عناصر الأدب/ مكسيم غوركي)؟ وهي حجر الأساس أو (حجر الفلاسفة) في سيرة هذا الرجل الذي يقول عن نفسه؛ (منذ طفولتي البعيدة وأنا أستشعر توترا بين الكلمات ص8)، و(سرعان ما فهمت أن علاقتي مع العالم لا يمكن أن تتأسس إلا من خلال الشعر ص11)؛ أي من خلال الحلم واليقظة والكلمات واللغة. و(اللغة في القصيدة تقول أكثر مما نتوهم أنها تقوله ص13). لهذا السبب فإن "الجسر والهاوية" تعني أيضا "الجسر أوالهاوية"، وعلى الشاعر أن يختار. وليذهب الفرقُ الهشّ بين واو العطف وحرف العطف "أو" إلى الجحيم. و "أو" العطف تفيد معاني كثيرة؛ منها التخيير، ومنها الإبهام على المخاطَب والتشويش عليه. وتلك إحدى هوايات صاحب الجسر والهاوية. وحين يرتدّ صاحب "الجسر أو الهاوية" إلى الطفولة، فهو لا يفعل ذلك بدافع الحنين، وإنما ليلتقط مادة نصوصه الممتعة خدمة لأفكاره، ولما سيبقى منها؛ إذ أن(الحياة قصيرة وعمر الفن طويل/ لورنس داريل). في قسم الشهادة الابتدائية يعتقل مدير المدرسة الشاعر الطفل في قبو لثلاث ساعات كاملة، ومن التجربة يستخلص بعد حوالي نصف قرن: (أدركتُ بالملموس كيف يكون الظلم والظلمة مصدرين للمعرفة ص43). أما حين أرغمته معلمة الرسم على تعليق دفتر الرسم فوق ظهره، والقيام بجولة عبر الأقسام؛أقسام الدرس طبعا، ليتأكد الجميع بأنه رسام فاشل، فهو لا يجد في هذه الحكاية سوى ما يؤكد اختياراته الجمالية في الكتابة؛ حيث خرق القوانين وكسر القواعد، والذهاب بالتجريب إلى مداه.( الآن أقول لها: شكرا. لولاها، هل كنت سوف أتجرأ فيما بعد، وأخرق- بتحريض ضمني من ماغريت- أهم القوانين الطبيعية؟ ولا سيما قانوني الضوء والجاذبية: هل كنت سوف أرسم وعيناي مغمضتان؟ ولا سيما فوق الزجاج. بل وفوق الماء. ص43). والرسم فوق الماء يجعل كتابات محمد بنطلحة (ذات سحر خاص)؛ السحر الذي تفتقده أغلب إنتاجاتنا الإبداعية شعرا أو نثرا. سيّان.