يستدعي الشاعر محمد بنطلحة، في هذا ديوان «قليلا أكثر»، كل متاعه الشعري السابق، على نحو يجعل من القصيدة محلا لتصاديات ثقافية مختلفة، تنادي على الفلسفة والأسطورة والرواية والنقد الأدبي وغيرها من الأجناس والأعمال، بما يسعف في بناء تجربة تبتهج بتوسيع مسام الشعر وتكثير صدى المعرفة الشعرية يستأنف الشاعر المغربي، محمد بنطلحة، حفره الشعري بذات الألق الذي اختطه لنصه وهو ينأى بنفسه، منذ سبعينيات القرن الماضي، عن غنائية الموقف الشعري المحفز برهانات التغيير. وإذا كان الشاعر، في كتاب «ليتني أعمى»(فضاءات مستقبلية/ 2002)، قد جمع أعماله الشعرية الأربعة («نشيد البجع»،1989/ «غيمة أو حجر»،1990/ «سدوم»، 1992/، «بعكس الماء»، 2000) التي تؤرخ لمسار توجه الشعر نحو الانشغال بميتافيزيقاه الخاصة والاشتغال على لغته الشخصية، حيث ينصهر معدن الحقيقة في نار الشك، فإنه يواصل، في عمله الشعري الجديد «قليلا أكثر»(دار الثقافة/ 2007)، رهانه على كثافة تستقطر اللحظة ونسغ التجربة، بما يسعف في تحويلها إلى فضاء لاستعارة شعرية موسعة، تجمع بين ألق الفكر وسعة الخيال، وما يتولد عنهما من غبطة معرفة لا يكون الشعر شعرا بدون قلقها وارتيابها المصونين. يستدعي الشاعر محمد بنطلحة، في هذا الديوان، كل متاعه الشعري السابق، على نحو يجعل من القصيدة محلا لتصاديات ثقافية مختلفة، تنادي على الفلسفة والأسطورة والرواية والنقد الأدبي وغيرها من الأجناس والأعمال، بما يسعف في بناء تجربة تبتهج بتوسيع مسام الشعر وتكثير صدى المعرفة الشعرية، دون أن تحيد بها عن ذلك البناء التجريدي الذي يجعل القصيدة سليلة بذخ الشذرة وتقشف القول الحكيم. مِن الماء تنبثق الحياة الشعرية في «قليلا أكثر»، ومما يَهُبّ عليه مِن نسائم الخيال تنبثق تلك الدوائر والارتجاجات الدلالية التي تكشف، بلغتها الاستعارية، عن ارتجاجات بعيدة الغور في الوعي الوجودي الإنساني: «المحيط عرفناه/ سمكة / سمكة/ والهدير، كالحقائب الموصدة، كم نقلناه/ مِن كتف إلى كتف/ وفي الأخير،/ إنسان الثلج لم يخطئ: الزمن ليس سمكة» (ص5). إن استعارة الماء البانية لمتخيل هذه الشذرة، تترجم قلق الإنسان تجاه الزمن، على نحو يستحضر ظلالا من استعارة «الزمن نهر» ذات السلطة العريقة في المتخيل الشعري والفلسفي. والشذرة لا تستحضر هذه الاستعارة إلا لتعلي من شأن الارتياب والقلق (الهدير) لتجعل منهما أداة لمعرفة لا تجد يقينا، في هذا العالم، يعلو على «قبضة ثلج». يتكرر دال الماء بتواردات معجمية متنوعة، ليفسح لارتجاجات أخرى في الدلالة: «الحبكة هي الحل/ هكذا قلتُ وأنا أرى الأمواج/ على اختلافها، لا تأخذ الدرس/ وتسقط/ عند كل صخرة/ في نفس الخطأ» (ص7). إن الاندفاع الحيوي ل»الموج» باتجاه «الخطأ»، لا يفصح إلا عن ذلك التكرار الأبدي الذي يسم كل تجارب الحياة بعطل جوهري، تتفتت أمام «صخرته» كل إرادة في الخلاص والتحرر. لذلك لا يبقى أمام الذات إلا السخرية: «يا بحر/ يا غليظ الرقبة/ تغيَّر الزمان/ وأنت؟ / دائما، في يوم الريح كرسي كهربائي/ وفي يوم الغيم رَجل عنكبوت» (ص 70). إن طرافة الصورة الشعرية وجِدّتَها، في هذا المقطع، لا تعضد طاقة السخرية، إلا لتفصح عن حلكة وجودية تقرن «البحر» باحتمالات الألم والعذاب والموت التراجيدي ، دون أن يكون هذا الموت نشدانا للكمال: «كل موجة هادرة علامة ترقيم/ وكل صفحة مبتورة، لورانس داريل سوف يستشهد بها على قوة العباب»(ص11). وحتى عندما تنخفض «قوة العباب» وتسري روح السلام في جسد الماء، تبقى رائحة «الغدر» متسربة في ما ينهله الناس، مزاحمين الغرقى في رزقهم الذي أفنوا عليه أعمارهم: «انخفض الماء/ وها نحن/ فقط/ كي نغيظ الموتى/ نأخذ حفنة ونشرب/ من كل جدول/ شربوا/ منه./ ارتوينا./ والقلة، هي التي شمَّتْ في طعم الماء/ رائحة السكاكين»(ص15). تقترن شعرية الماء، أيضا، في الديوان، بالبحث عن النفائس. والبحر الذي تتداخل حدوده، في هذه الشعرية، مع الجسد خائضا لتجربة الأهوال، لا يغدق على الناس بهذه العطايا، إلا بعد أن يدس في قلبها ما يبعث على الارتياب، والخوف: «أيُّ / لؤلؤة/ لن تجلب الصمم/ ولن يكون في جوفها، إما قنفد/ وإما بركان»(ص14). إنه ماء الكتابة، الذي يجعل الاستعارة تفاجئ المعنى من أمكنة غير متوقعة، فتصل بين المفردات والأشياء بتواشجات منبثقة من مياه الأعماق. من هنا يقترن المعنى بذلك النهر الذي يترقرق منذ فجر البشرية، في أرواح الشعراء المؤسسين، الذين يحملون إلى بيوتنا، في الصباحات المباركة، هباتهم النادرة: «منذ أن شققتُ بابا/ في ليل المعنى/ ونهر ما/ يحمل الغيوم/ والبحيرات/ والحدائق/ يحملها بأشجارها، والطيور فوقها/ إلى داخل الغرفة» (ص31). يتدفق ماء الكتابة في الديوان بكل قوة، لكنه يعرف كيف يتسرَّب إلى تلك المنطقة الحدودية، التي تُجاور فيها الابتسامة الحذرة القلقَ العارم، خاصة عندما تغوص الكتابة في قلب الأسئلة الوجودية الشائكة، الفائضة عن حدود الأنا: «في مقبرة وُلدتُ/ وفي حانة أموت/ حكيم كالرماد/ وحيثما حللتُ، كألوان الطيف/ لا أستريح»(ص20). ولا تكشف الذات المتكلمة، فقط عن شرط شخصي، بل تلتقط جوهر قدر عام، يدمغ الوجود الإنساني ككل: «الحياة بردعة/ والبشر، فوق ظهورهم، نصوص ينقلونها/ من عصر إلى آخر/ بأخطائها»(ص72). ولعله الخطأ الذي يتحكم في ضربة الإنسان الذي «كلما هوى بفأس/ هوى على قدميه». يغمر ماء الكتابة، في «قليلا أكثر»، فضاء يتجاوز حدود الذات الضيقة إلى قلق الإنسان مواجها لمصيره، غاصا بقدمه في أرض شائكة، تنغل بالأسئلة الوجودية، والوحل الميتافيزيقي. وقد شكلت السخرية، والحكمة المتقشفة، والتماعات الوعي أو اللاوعي السريالية، بعض المتاع الشعري الذي مهرتْ به قصيدة محمد بنطلحة وجودها، وهي تتحرى بناء يراهن على التكثيف وتحويل الألم إلى شبح ابتسامة جريحة بين الشفتين.