لقد مر على المجتمعات العربية حين من الدهر وزعماؤها المستبدون و محترفو الكذب والنفاق من المسؤولين يتبجحون بعظمتها وهيبتها وسيادتها والناس يتوهمون الكذب واقعا، و الأحلام حقيقة، خمسون سنة مرت وهم يتنطّعون باسم الوطنية والقومية والشعبية والوحدوية ، خمسون سنة من الزّيف والتمويه أشد ما يكون الزيف والتمويه.. خمسون سنة ونيف وهم يتباهون بالعروبة وأمجادها البائدة. يعيش العرب اليوم صدمة ما بعد سقوط هذه الأنظمة، ومخاض التعايش الصعب والقبول بالآخر.. صدمة اكتشاف مأساتهم الحقيقية ،بدءا برزايا التربية و التعليم، ومرورا برسوخ القيم التاريخية السالبة والتقاليد الجمعية العقيمة،وانتهاء بتفشي قيم ومفاهيم العنف والكراهية، وشعارات الانقسام ، وانتشار الخرافات والأوهام . خمسون سنة مرّت على مجتمعاتنا، وقد جَرّبَت مختلفَ البدائل الصعبة،جراء الاختلافات والانقسامات الاجتماعية التي أخفاها القادة تحت أحزمة السياسة والأيديولوجيا.. ظل الفرقاء المتصارعون على السلطة أسارى لنوازعهم الاجتماعية المتوارثة ،وعواطفهم الطبقية وانتماءاتهم القبلية ،فكانت المسيرات المليونية والفرقعات الإعلامية والافتراءات الحزبية والانقلابات العسكرية والاختيارات الاقتصادية الكارثية، وكان قبل وبعد كل هذا ، الاستحواذ على السلطة بأية وسيلة وبأي ثمن، كما كانت الصراعات الدموية والقتل و التعذيب، وكانت المآسي التي يندى لها الجبين في زنازين الأنظمة العربية، وكانت الإقامة الجبرية على المعارضين السياسيين في إقامات خاصة تحت الأرض لعشرات السنين ،وكان إلقاء المناضلين من على الطائرات أحياء في البراري والبحار، وإعدام القادة بأيدي رفاقهم بعد تعذيبهم، وكان أخيرا قائد علا على شعبه ،فانتفخ كبرياء حتى تحول عنده الشعب إلى مجرد جرذان تستحق السحق.. خمسون سنة مضت ، والكل يكذب على نفسه و على الآخرين . تاريخ من الكذب والاحتيال والنصب، إذا نحن أحببنا قائدا منحناه أنفسنا طوعا، وقدمنا له فروض الطاعة و التقديس، وإن كرهناه أمطرناه بوابل من اللعنات وأقذع الشتائم والنعوت.. هذا الإرث الصعب قد ساهم بالفعل في صنع كل الموبقات السياسية و الاجتماعية ،هذه السلوكات الشاذة ، أسس لها قادة وزعماء مستبدون ، جاؤوا من بيئات قبلية وطائفية مغلقة، تحمل الكراهية و الأحقاد ضد عموم المجتمع . كان من أعظم فواحشهم (القادة)، انحيازهم لذواتهم وأقربائهم وقبائلهم وطوائفهم وأحزابهم، فجعلوا منها فصائل ومليشيات تأتمر بأمرهم وتقاتل من أجلهم لا من أجل الوطن.. إنه انعكاس حقيقي لأمراض تاريخية تضخمت فاستعصت عن الدواء، وليست تمثيلا لعموم المجتمع رغم كل المسوغات.. وما أيسر المسوغات عند البعض، وما أكثر الانحيازات عند البعض الآخر. خمسون سنة مضت هدرا، كانت كافية لخلق تناقضات رهيبة.. هروب جمعي جغرافيا نحو الغرب بأية وسيلة، وهروب تاريخي نحو الماضي لاستعادة المجد المفقود..خمسون سنة من الشقاق والنفاق والانشطار والتشظي إلى كيانات سياسية مجهرية، بفعل الخيانات والمؤامرات والدسائس .واقع عليل أوجد أناسا ولاؤهم لمن يُرهبهم،وإذا ما سقط انقلبوا عليه بشكل مريع ،أناسا يتصيدون أخطاء أبناء جلدتهم ،ليخوضوا في سريرتهم بكل ما أتيح من ألفاظ في قواميس الشتيمة والتجريح. هذا حالنا لزمن مضى يعرفه الجميع ،لا يمكن مقارنته مع حالات الطيبة و الكرم و النبل والشهامة التي سمعنا أو قرأنا عنها في كتب التاريخ ،عن أناس هؤلاء أحفادهم ،انزاحوا عن سواء السبيل..حال توارى فيه الأتقياء و الأنقياء خلف جحافل من التافهين والطفيليين والقتلة والشّبيحة والمرتزقة،وتحت سياط من فتاوى شيوخ ووعاظ السلاطين ،ورصدٍ من الجواسيس والمخبرين ،هذا كله في جوقة من البهرجة والتمويه ، بَرِعَ في إخراجها صنف من المهرجين والأدعياء و المرتشين والمفسدين، الذين تكاثروا كالفطر. هذا زمان يعبر أصدق تعبير عن مرحلة أخصبتها أمراض التاريخ وفيروسات الجغرافيا وفضاضة المستبدين . إننا اليوم أشد ما نكون إلى ثورة أخلاقية عربية جديدة ، تعيد النظر في القيم والمعاني التي من أجلها قضى الأجداد والآباء ،واسترخصوا كل نفيس، لعل الحال يستقيم، ليفضي في آخر المطاف إلى تصالح التاريخ والجغرافيا ، في بلاد أدت ثمن انفصالهما أكثر من اللازم.