في سابقة من نوعها، وبعيدا عن الفضاءات النخبوية التي أَلِفَتْ إحتضان لوحات الريشة واللون، نظم الفنان محمد الزياني(*) بأحد المقاهي بتنغير معرضا تشكيليا يضم عددا من اللوحات حملت تيمة "الوجود والزمان"، وقد نُظِّمَ المعرض من طرف مجموعة البحث العلمي والثقافي في إطار مقهى أدبي ما بين 26 يوليوز2012 و04 غشت2012 حمل عنوان "رمضان العلم والمعرفة" في دورته الأولى التي وُشِمَتْ باسم "عمر أوعلي" ضم مجموعة من الأنشطة الفكرية والثقافية والفنية. ونظرا لغياب ثقافة تشكيلية تعزز قيم الإستتيقا في الفكر والوجدان الشعبي، فقد جاءت فكرة عرض لوحات تشكيلية، في فضاء إجتماعي شعبي تستلب فيه الثقافة والرؤى الفكرية المستنيرة لصالح ثقافة النميمة والبهتان، لتكسر هذا النمط من العلاقة بين اللغة والثقافة والمكان، إذ ينفتح فضاء المقهى على قيم الفن والفكر، وبالموازاة ينفتح الفنان التشكيلي على جمهور واسع من رواد المقهى، تعودوا تذوق المشروبات ولم يعتدوا تذوق جمال يخاطبهم بلغة أخرى غير اللغة التي ألفوها في مثل هذا الفضاء الإجتماعي الشعبي. ولم يقف تكسير محمد الزياني لمجرى العرض التشكيلي بل تعداه إلى تكسير إيقاع الحياة أو على الأصح إلى نقد نمط الوجود الإنساني في لوحاته التي بدا فيها القلق سائحا غير مرغوب فيه لكنه قلق يتسلل بين التشققات ويندس بين التصدعات التي تشيع في الأرض ليصرخ في وجه الإنسان ويفجر الرأس الذي يغلي بالأفكار والأمنيات البريئة من "الآثام". في البدء إذن جاء القلق، والقلق حين يأتي يصبح تيارا سيارا ومتدفقا كفيضان يجرف معه كل الصخور الصلبة التي تأبى الإنقلاع من مكانها، وما يبدو للعيان صافيا واضحا ومستقرا يصطبغ عند الفنان بألوان متكدرة تتهم إنسانا بالإنغماس في حياة فوضوية يعيث فيها فسادا إلى أن إفتقدت المعنى وصارت جافة. فالحياة التي نعتقدها سائرة صائرة هي حياة راكدة عمر فيها التصدع، والأفكار والأمنيات التي ظلت تفتش عمن ينصت لنبضاتها أو عمن يفسح لها المجال لتشخص فعلها الإبداعي على الأرض وأمام الملأ، أَلْفَتْ نفسها أمام مقصلة القمع ومشنقة الإستبداد فكبتت غيضها وكتمت فيضها، إلا أن الرغبة التي تكبح في منتصف الطريق لا تقتلع من الجذور، كما لا تكف عن الحركة في كل إتجاه بحثا عن الخلاص، كالنملة التي تسد الطريق أمامها غير أنها لا تيأس، إذ تغير مسارها في كل مرة وجدت سدا يصدها عن التمادي في سبيلها نحو غايتها. والإنسان الذي يعتقد أنه يسير ويتقدم هو في الواقع يدور في حلقة مفرغة، وهذا هو واقع التنمية بتنغير إذ يأتي إليها "تنغيريو العالم" كل سنة أو بعد سنوات فيعتقدون أن شيئا قد تغير وأن عجلة التنمية بدأت تتقدم بعدما وقفت الصخور الصلبة في سبيلها، فإذا بها تدور فقط في الخواء حتى قبل أن تصير عمالة، وبعد أن صارت كذلك مازالت التنمية معاقة وتنتظر من يجعلها سوية. إن الزمن هنا يتوقف فيسلب الكائن كينونته إذ يحيله عدما يزحف كوباء في كل بناء فيصيبه بالتصدع والشلل في الحركة، فلا طرق أو شوارع قد إنصلحت، ولا قنوات الصرف الصحي المتآكلة قد بُدِّلَتْ، ولا فرص شغل قد خُلِقَتْ للمعطلين من حملة الشواهد العليا، ولا مشكلة الأراضي السلالية قد حُلَّتْ، ولا الأحقاد القبلية البائدة قد أُبِيدَتْ فعلا. وهكذا يُصْلَبُ الإنسان حين تهدر كرامته ويهدر معها زمن التنمية في خندق تتقاذف فيه العمالة مع المجلس البلدي تهمة من يعرقل تنمية الإنسان والمجال. فمن سيحمل هَمَّ التنمية إذا لم يتشاركه الأنا والغير؟ ولماذا هذا العبث بالمسؤولية بين الأنا والغير وكأن لا أحد مسؤول عن هذا المآل؟ الأمر الأكيد، هو أنه ما عاد بإمكان النعل أن يتقدم سوى نحو الهاوية، وما عاد الرحالة قادرا على أن يسير إلا فوق تشققات الأرض بدون بوصلة لأن ما تبقى منه سوى الحذاء أما هو فما عاد قادرا على الرحيل فاستحال عدما وإن حضر نعله، وفي هذا إحالة إلى من يرى في التغيير نوعا من الوشاية المغرضة التي يخشاها من أَلِفَ الركون إلى كهوف الهوى وإمتطاء الغير طلبا للمآرب الشخصية وتشوقا إليها لا لغيرها. لقد تشقق الوعي وتصدع المكان حين لهت خلف الإسمنت المسلح ونسي من يقيم أود الإنسان ويجعله متفردا في العالم وفي علاقته بالآخرين: وعيه وحريته. فأي هوس هذا الذي وسوس للوعي ألا مكان هنا وهناك، الآن وغدا، إلا للأرض والإسمنت؟ كيف بلغ الهوس بشراء البقع وإمتلاك الشقق والتطاول في البنيان هذا المدى الذي محا النظام وأحل الفوضى مكانها؟ إن ما تكدر، وهو ما تتشربه لوحات الزياني عن سابق إصرار وترصد، هو ذلك الصفاء الذي لازم الوشائج التي تنسج بين الذوات، وتزيد في توطد النظام في العالم والمؤسسات، حين كان الإنسان غاية في ذاته فيحب ويصادق لأنه جدير بذلك، بغض النظر عن طبقته أو موقعه الإجتماعي أو مدى صولجانه، وحين كانت كل ذات حتى وهي تتعالق مع الذوات الأخرى تحتفظ لنفسها بمساحة تخلق فيها تميزها، فلا تتهرب من تبعات أفعالها، ولا تذوب في الآخر، كأن تفكر كما يفكر، وتأكل ما يأكل وكما يأكل، وتتذوق ما يتذوقه وكما يتذوقه. والأرض التي يغيب فيها النظام تستعمرها الفوضى ويعمر فيها العبث، فتصيب الإنسان بالغثيان، وهو إحساس من يسكنه القلق، لأنه لا يطمئن إلى اللغة العفنة المحشوة بِلَكَمَاتِ الحقد والمكر والكذب، ولا إلى العلائق الأسرية المتآكلة بالتفكك، ولا إلى الكيانات الحزبية الممسوسة بجرثومة الإنشقاق. فكيف نعيد التوازن إلى عالم تسوده الفوضى وإلى بنيات صادها التصدع فلم تعد تقوى على السير إلا وهي معاقة؟ إن الجرة التي نملأها بخيرات الأرض وحكم الوجود هي الآن على حافة الهاوية وقد إنسكب منها، بعد إنكسارها، ما عددناه يوما إكسير الوجود، فالعتمات التربوية والصحية والقضائية والرياضية هشمت المعنى وأغرقت جدوى المؤسسة في السيول. وعوض أن نحكم النظام في تدبير سير مؤسساتنا، صرنا نؤله الصدفة والحظ ونلقي عليهما جم غضبنا حين لا يسايرنا أي منهما ولا يرتمي أحدهما ذليلا عند أقدامنا، معلنا مساندته المطلقة واللامشروطة لإنتظارنا الشيطاني أمام بابه، ونتغافل بالمقابل عن أن الحياة لا تسير بصدفة الأقدار وإنتظار أن تكشف لنا من تلقاء ذاتها عما تخبؤه من الأسرار. وعليه، يبدو السلب كائنا خرافيا لا يقوى سوى على إجترار العتمة في أي زمان وحيثما كان، إذ يسحبنا بمكر ماكيافيلي نحو قاعِ وجودٍ نرتعب فيه لأشلاء هوية لم تعد تمثل سوى شطحات فولكلورية لزمن إعتقدناه مضى وإنقضى. هذا السلب الذي يلفتنا إليه الزياني بروح فلسفية ثائرة تتغيا، ليس الإنتقام من أفعال نمطية مغشوشة، وبنيات مشلولة خدرت الإنسان، وأفرغت واقع التجربة الإنسانية من خصوبتها وغناها المادي والرمزي، وإنما إيقاظ الضمير الآدمي من لعنات قدر صنعه الإنسان بأنانيته، فسقطت منه كرامته بين الشقوق، وتكدرت بأصناف الإعاقة في كل ميدان. وهو ما يرفع السلب إلى درجة الإيجاب، ويحيل القلق إلى حلم جميل، إذ يريد عالما بريئا من الفوضى و"الآثام"، لكنه حلم مزعج، إذ لا يبرئ كائنا أنفق الزمن في إهدار آدميته. -------------------------------- (*) فنان تشكيلي عصامي إزداد بتنغير سنة 1965، نظم مجموعة من المعارض التشكيلية داخل وخارج الوطن، كما لقيت لوحاته إهتمام عدد من المختصين والمهتمين من خلال مقالات نشرت بعدد من المنابر الإعلامية وطنيا ودوليا.