لنعد لمتعة القراءة فما رأيكم ؟ أنا الذي وجدت نفسي مع القراءة ومصاحبة الكتاب منذ الطفولة ، أقتنيه بما أملك من دريهمات ، أتصفحه بشوق ، فيزداد شوقي لهفة كلما وجدت ما يلفت نظري من تعبير أو مضمون يقاسمني الأمل والألم ، أحلم مع الكاتب متنقلا بين صفحات الكتاب ، ينتابني شعور التواجد مع الحدث ، والتفاعل مع الأشخاص والوقائع ، ومع الكاتب المؤلف ؛ أنا الذي تذوقت القراءة وشعرت بمذاقها مبكرا ، واكتشفت أنها فهم وإدراك بعد التوصل لمقاصدها ومغازيها منذ الصغر، غير أنني كما أنت والآخرين أسقط مرة في القفص لما يتيه بي خيالي شارداَ بهموم العائلة أو الأصدقاء والناس جميعا ، أو ارتباطا بمقارنة مع موضوع له التعارض أو التأييد أو يحتاج إلى تفسير، و أتحرر عندما أفهم المعنى ، وتنطلق تلاوتي وكأن المؤلف منحني الاستراحة ، وحررني من قيود الفهم الصعب ، وأشعر بنشوة التواجد ولذة المتابعة مع انسياب الوقت الذهبي ، وأعاود الكرة مرات ومرات ، وأيام ، هل فهمت شيئا ؟ هل تعلمت ؟ هل أنا أتعلم ؟ أهكذا التعلم ، أسئلة تنساب بين اللسان ، والفكر المهووس مشغولا بمتابعة القراءة ، وتأجيل الانتظارات والمواعيد السابقة وحتى وإن كانت سخرة الأب أو الأم ، إهمال أشياء وتعليقها وتعلم أشياء ، نعم إنه التعلم المرتبط بالكتاب في أوقات الفراغ ، التعلم بتدبير المال المفقود لاقتناء كتاب ، وتعلم التوفيق بين الدراسة الضرورية والنشاط التكميلي المميز ذي الصلة بالواجب الدراسي ، تعلم معرفة تدبير الواجبات المدرسية لا المطالبة بالحقوق والنقط المجانية ، إنه ابتلاء لازمني طيلة سنوات الدراسة ، ابتلاء محمود اكتسبته مع أقراني ومن أساتذتي وحفظة القرآن وغيرهم ممن تكون منهم المجتمع في هذا الزمن والبيئة المحيطة بي ، فكنت أيامها لا يهدأ لي بال ولا أجد نفسي إلا في التجول بين مكتبات المدينة والبحث عن كتاب بين رفوفها ، وغالبا ما يكون الاستدلال للكتاب الشيق من صديق سبق له قراءته ، فيكثر التهافت عليه من الأصدقاء ، فأترقب ساعة الانقضاض عليه ، وبين الانتظار أتصفح وأقرأ ما يشفي الغليل في المكتبة وأين ما كنت ؛ لا أشك في كون الكثيرين كان لهم نفس التوجه والسلوك أيام الطفولة . إنها أيام الدراسة والطفولة ، والمراهقة السوية ، بحيث لا تخلو من منافسة الدراسة مع الزملاء ومع استباق الزمن ، وللعب مواسم وأوقات لا تفريط فيها مع الأقران ، تعلمك معرفة الزمن ، ومنها ما يغرس فيك حب الاستطلاع والاستكشاف ، والبعض منها ينمي الذكاء والذاكرة ، ولكن الارتباط بالقراءة والكتاب أكبر حيث ينسيك هموم الفقر والحاجة ، ويشغلك عن السقوط في متاهات التقليد ، ويجنبك اللغو والجدال الكلامي الفارغ ... من المفارقات العجيبة أنك تحقق الهدف ، فيتغير حالك فجأة ، بالأمس القريب ليس كاليوم ، العزوف عن القراءة ؛ تغير مساري وتوجهي لما تحقق هدفي وولجت سوق العمل ولم أشعر بنهاية الابتلاء المحمود وبداية بلاء حقيقي الذي دام مدة طويلة ، عشت خلالها المتاهات الحقيقية ، بعيدا عن الكتاب والقراءة ، قريبا من تجاذبات المقاهي والملاهي العمومية والمفسدة والمضرة...أحصد الغباء والجهل ، والتفاهات مع الرفاق ...ونسيت بالإهمال معظم التحصيل المكتسب في السنوات السابقة ، بل هممت إلى مجالسة أي كان والخوض في مواضيع لا ترقى أن تسمع لعاقل ، فنكتات العصر بين الأفواه وبلا استحياء ولا احترام تروى على مسامع الحضور وأحيانا من أفواه أبناء شيوخ الزوايا على حد قولهم على كل حال ، تليها قهقهات يغطي صداها صوت محرك الحافلة المار من الطريق القريب والمقابل ، وشجارات بين أشخاص هنا وهناك تزعج جلساء نادي المقهى ، وعندما نشعر بما نحن فيه لا نكلف أنفسنا أكثر من التمني ودعوة الله أن يعفو علينا وعنا ويغير حالنا ، بدون تشخيص وضعيتنا ومعرفة كنه المحفل الذي نحن متواجدين فيه ، بل حتى الموضع الجالسين فيه ، داخل هذا المبنى لا يوجد من يتصفح ولو كتابا واحدا باستثناء قراءة البعض للعناوين الكبرى للجريدة اليومية والمرور بسرعة فائقة لتعبئة الخانات الفارغة للكلمات المتقاطعة وشبكات الصودوكو... التحول جاء فجائيا والحمد لله ، أي العودة والرجوع إلى مصاحبة الكتاب والقراءة ؛ والواقع لم أكن أفكر إطلاقا في ذلك غير أنني عالجت مشكلتي قبلها بقليل بقراءة وبحفظ القرآن راجيا الأجر والثواب من الله تعالى ، وترتيب الوقت ودفع البلاء الذي لازمني ، وأقاوم الشيطان ، غير أن ذلك شق علي بسبب انحدار مهاراتي الذهنية ، لكن الإرادة قوية والعزيمة موجودة تواجه كل من سولت له نفسه من الشياطين لمعاكستي والحمد لله ، ومع ذلك بقي فراغ كبير من الوقت ، ومعه التجاذبات تحيط بي من كل مجالات الحياة وإغراءاتها . بدأت فترة الانتقال نحو القراءة بهذا التحول حيث دخلت المكتبة يوما مع صديق فرض علي التجول بين رفوفها ، والواقع ، حال صديقي العزيز هكذا كلما التقينا بين الفترات المتباعدة بسبب ظروف عملنا ، فكلما ولجنا المكتبة لاحظت أن الكتب لا تزال جاثمة في أماكنها تنتظر من يخلصها من سجنها ويتصفح وريقاتها ، فشدني الحنين لماضي الابتلاء الحميد فهمست لي نفسي بالتساؤل : هل ظلت هذه الكتب قابعة هنا طيلة هذه الفترة لما تبين لي أن معظمها لم يتحرك من مكانه والغبار يغطي جنباتها ؛ لم أقتني ما اقتناه صديقي ولكن شعرت أنه يدفعني لذلك وأنا مثقل بهموم أخرى غير أنني أفكر في حالي بجد وغير راض عن نفسي تماما ، زادني ضغطا عندما كان يحدثني عن أسماء الكتب والكُتاب وتوجهاتهم وأحسست بأنني قطعت الصلة معهم ولم أعد أعرف عنهم أكثر من الاسم والهوية ، ولم تعد لي إمكانية الرغبة في القراءة ، بل ثقلت علي أكثر ، وبدأت أشعر بالدونية أمام صديقي العزيز ، الذي فرض علي هذه المرة قراءة رواية راقته كثيرا حتى نتمكن من مناقشتها سويا على ما يبدو، رواية بعنوان la vingt cinquième heure) ) لكاتبهاde Gheorghiu C. Virgilم . بدأت قراءتها ولم أكن أنوي إتمامها غير أنها جلبتني بعد اكتشاف روعتها وأهمية أحداثها التي تحكي مغامرات جندي روماني اتهم بالجنسية اليهودية وهو ليس كذلك خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى سنة 1949 ، ولم أتمكن من إخلاء سبيلها دون إتمام قراءتها ، بل قرأتها ثانية لأركز أكثر أو لقلة الاستيعاب ، والثالثة بعدما شعرت بأهمية القراءة وضرورتها لتغذية العقل ، لقد أنقذني صديقي العزيز من حصاد الغباء والجهل من المقاهي والملاهي التي عششت بها مدة كما يعش الطائر مع بيضه حتى تنتهي مهمته فيذهب لحال سبيله . أصدر صديقي العزيز مجموعة قصصية بعنوان "الخبز الأسود"، وكان قبلها كلما كتب قصة قصيرة بعثها إلي لقراءتها ، وكأنه يطلب مني العودة للقراءة وتصفح الكتب على الأقل ، أو ربما يدفعني لذلك عمدا ، لا أريد مفاتحته في هذا الموضوع لمعرفة السبب لأن ذلك غير ضروري ، أو لأن ذلك فيه إحراج ، ولكني لاحظت أن معظم الأصدقاء والمقربين لصديقي العزيز لما حصلوا على نسخة من كتابه "الخبز الأسود "هموا لقراءته وبشوق كبير، ومنهم من طلب منه إصدار المجموعة القصصية الثانية في أسرع وقت ، وبدأت محاباة صديقي من أصدقائي وآخرين ، فأخذوه مني وقلت مرافقتي ومجالستي معه بعد أن عودني مرافقة الكتاب عن قصد منه أو غير قصد ، غير أنني اكتشفت سهولة إمكانية إرجاع الناس للقراءة ومعالجة العزوف عنها إذا تقرب الكُتابُ من القُراء ، وجالسوا أصدقاءهم ، ويمكننا أن نتساءل ، هل إهداء الكتب من الكَاتب إلى القراء كما فعل صديقي العزيز وسيلة ممكنة وفعالة ؟ هل توزيع أو بيع الكِتاب خارج المكتبات وإيصاله بسهولة للقارئ تريحه من معانات البحث وانتقاء الكتاب فيقدِم على القراءة ؟ هل الإشهار الإعلامي للكتاب أصبح لا مفر منه ؟ هل يكفي تقديم الجوائز للكُتاب في المحافل الأدبية ؟ هل يمكن أن تقام سهرة ثقافية على غرار سهرة فنية يقرأ خلالها الكاتب قراءة صوتية لإنتاجه الأدبي بالمقابل ؟ إذن كيف ما كانت الأجوبة أو اقتراحات أخرى فإن إمكانية الرجوع إلى القراءة وعدم العزوف عنها أمرا يتطلب فقط العمل الجاد وليس الاقتصار على المعارض السنوية للكتاب. لنعد لمتعة القراءة فما رأيكم ؟ شكرا لك صديقي العزيز، وأنا بعيداً مما أنت فيه، بحثت كثيراً عن كلمات أعبر بواسطتها عن شكري لك فلم أجد أحسن من هذه العبارات ، أُحبك في الله ، وأحييك تحية ملؤها الاعتراف والتقدير. ذ.حسين سونة[/B]