عندما تقع كارثة طيران ما، سرعان ما تتجه الأنظار، جميعاً، للبحث عما يسمى بالصندوق الأسود في الطائرة وهو جهاز لتسجيل بيانات الرحلة، وآخر اللحظات التي عاشتها الطائرة قبل أن تهوي لآخر مرة في رحلتها الأخيرة، ويكون موجود عادة في ذيل الطائرة، ولونه يكون عادة برتقالياً أو أصفراً، وليس أسوداً كما يعتقد للوهلة الأولى ويتحمل حرارة تفوق ال 1000 درجةمئوية، وهناك في كل طائرة صندوقان أسودان عادة. وكم ينجح هذا الصندوق الأسود في تحديد سبب كارثة الطائرة ومعرفة أسباب تحطمها، وقد يفيد في إضافة خبرة جديدة إلى عالم وعلم الطيران، ولكنه بالطبع لا يقدم أية خدمة لأولئك الذين فقدوا حياتهم على متن الطائرة، ومهما تكن المعطيات دقيقة وواضحة، فهي لا تفلح في إعادة أي راكب إلى الحياة. وقد يؤدي عدم العثور على الصندوق الأسود إلى استمرار الغموض بشأن سقوط بعض الطائرات، وكما حصل أخيراً مع طائرة إير- فرانس الرحلة 447، وكان على متنها 228 راكباً، والتي هوت فوق الأطلسي قادمة في رحلة من البرازيل، في بداية الصيف الماضي، وضاع صندوقها الأسود وسط قيعان ومجاهل ذلك المحيط، ولم يعثر عليه، رغم أنه يستمر في إطلاق إشارات لتحديد مكانه، إلا أن عوامل كعمق البحر، لم تمكن من الكشف عنه، ناهيك عن أن لطاقته الكهربائية عمراً وزمناً حوالي الثلاثين يوماً يتوقف بعدها عن إطلاق الإشارات، وحالما تنفذ طاقته الكهربائية، ما يجعل أمر الحصول عليه في حكم المستحيل. المهم أن أهمية الصندوق تكمن في رفد علوم الطيران بخبرات جديدة عن هذا العلم المعقد، قد تجنب حدوث كوارث جوية مقبلة، وتقلل منها إلى حد كبير. ولكن أليس هناك الكثير من "الصناديق" السوداء المفقودة، أيضاً، في حياتنا العامة يجب العثور عليها والكشف عما فيها، لمعرفة سبب كل هذه الكوارث المتتالية التي تحل بهذه الشعوب والأمم؟ وأن العثور على الصندوق الأسود العربي وتحديد مكانه بالضبط وتحليل بياناته، قد يكشف سبب هذه الكوارث السوداء التي نتعرض لها منذ فجر التاريخ الأسود. نعترف جميعاً بأن كوارث برية وجوية وبحرية فظيعة ومروعة حلت بهذه الشعوب والأمم، ولكن هل عثر أحد ما على الصندوق "الأسود" الخاص برحلتنا التاريخية المشؤومة والمنكوبة؟ وهل بإمكان أحد ما دراسة بيانات رحلاتنا المنكوبة وتحديد سبب سقوطنا الفظيع، وتهاوينا إلى هذا الحضيض والقيعان المظلمة؟ أم أنه لم ولن يتم العثور على الصندوق الأسود حتى الآن، لتحديد ومعرفة كل ما حصل خلال هذه الرحلة الكارثية التي أدت إلى خسائر جسيمة في العقل والبدن؟ ولماذا يتقاعس كثيرون عن البحث عن "صندوقنا" الأسود، ويلفون ويديرون، من دون القدرة على تحديد مكانه؟ مطلوب اليوم من الجميع النهوض والبحث فوراً عن صناديقنا السوداء ، وتحديد مكانها لمعرفة ما حصل بالضبط ، بغية تجنيب الأجيال القادمة عواقب كوارث وسقوطات حتمية، في قيعان وأعماق أكثر ظلاماً ووحشة وانعزالاً؟ وكم من كارثة جماعية عربية وقعت من دون أن يعثر على "صندوقها" الأسود؟ وكم أتمنى أن يكون هناك صندوق أسود في كل دائرة، ووزارة، ومصلحة، وزاوية، وحيّ وشارع من حياتنا يسجل ويحدد ويشرح بدقة، ويكشف للناس سبب هذا التهاوي والسقوط والتردي العربي الفظيع في القيعان والهجوع التاريخي في هذه الأدراك المظلمة، وليخبرنا، بكل شفافية، عما حدث بالضبط، وحتى بعد وقوع الكوارث، وما أكثرها من كوارث، وما أكثرها من صناديق تحتاج لفتح وبحث، وتمحيص؟ أم أن صناديقنا السوداء، ستظل مفقودة، ومغلقة إلى ابد الآبدين؟