تحدثت وكتبت في أوقات ومناسبات مختلفة عن الهجرة النبوية (622 ميلادية)، ابتداءً من العام 1982م، ساعياً لتقديم مقاربة معرفية- استراتيجية لها تنفي الفكرة الشائعة التي نظرت لها كحادثة فرار من اضطهاد مشركي مكة، . إولجوء لى مكان آمن في يثربوبسطت أفكاري بشأنها حيث رأيت فيها تحولاً استراتيجياً فاصلاً في مسار مشروع التغيير الشامل (الروحي- السياسي- الاقتصادي- المعرفي- الأخلاقي) الذي نهضت بعبئه الجماعة العربية الجديدة: (المسلمون) بقيادة الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم". * * * تمثل هذا التحول في انتقال الجماعة الإسلامية من طور "الطليعة النخبوية" المضطهدة والملاحقة- خصوصاً من قبل الارستقراطية التجارية المكية- إلى طور "الحركة الشعبية", إثر حصولها على: قاعدة ارتكازية آمنة في يثرب (المدينةالمنورة)، وعلى حامل مجتمعي حضري لدعوتها ومشروعها تمثل في أغلبية قبيلتي الأوس والخزرج (الأنصار). وأؤكد هنا على الطابع "الحضري" للحامل المجتمعي للدعوة الإسلامية ممثلاً بمسلمي البلدين الحضر المستقرين: مكة "التجارية"، و"يثرب" الزراعية.. فما كان ممكناً للبدو –أو "الأعراب" كما سماهم القرآن- أن ينهضوا بحمل المشروع بسبب طابع حياتهم وعقليتهم وارتباطاتهم الدموية القبلية، وإن كانوا انضموا فيما بعد إلى الدعوة والأمة الجديدة وشكلوا مادة جندها المحاربين. * * * تكمن أهمية واحة يثرب الزراعية، ليس في كونها قد وفرت ملاذاً آمناً فحسب للمهاجرين (فقد وفرت الحبشة مثل هذا الملاذ)، بل في كونها تقع في ساحة الصراع الرئيسة: إقليم الحجاز والجزيرة العربية، وبالتالي فقد مكنت الجماعة الإسلامية من البقاء على تماس فعال مع الجمهور المستهدف بالدعوة والتغيير: أي العرب الوثنيين "الأميين"، وهو ما كانت الجماعة الإسلامية ستفقده فيما لو توجهت إلى المنفى (خارج الجزيرة العربية). ينبغي ان نذكر ايضا ان الاوس والخزرج هم من عرب الجنوب(اليمن)الذين استقروا في يثرب في وقت سابق,وان المهاجرين المكيين هم من عرب الشمال(الحجاز),وهذه اول مرة تتحد فيها قوة مؤثرة من العنصرين المكونين للعرب في عمل واحد مشترك بعد عهود من النزاع, مما عزز من قدرة الجماعة المسلمة ودورها كقوة توحيد ومركز استقطاب لمختلف بلدان وقبائل واقاليم الجزيرة العربية. الأمر الآخر المهم هو أن الحامل المجتمعي الجديد للدعوة (الأنصار) كان من القوة في بلده بحيث تولى الرسول "عليه السلام" القيادة (وأكرر هنا: "القيادة" وليس مجرد اللجوء الآمن له وللمهاجرين)، فشرع على الفور بتنظيم الأوضاع الداخلية: بناء مقر القيادة والدعوة والعمل (المسجد)، تعزيز اللحمة بين المهاجرين والأنصار ب(المؤآخاة)، تنظيم العلاقات بين الجماعات المختلفة الساكنة في يثرب (المسلمون- اليهود- غيرهم) على أساس المواطنة (صحيفة المدينة). * * * هذه الإجراءات مكنت الجماعة المسلمة من تنظيم شؤونها الخاصة والداخلية، وتوطيد أمن المقر الجديد وتوظيفه من ثم كقاعدة عمليات، مما أتاح لها تعبئة القوى واستثمار الميزة الجغرافية- الاستراتيجية الكبرى ليثرب الواقعة شمال مكة على طريق التجارة مع الشام (وهو أحد الطريقين التجاريين الدوليين الاستراتيجيين العابرين للجزيرة)، وذلك بالقيام بتهديد التجارة المكية (مصدر قوة مكة الرئيس منذ أرسى الجد الخامس للرسول عليه السلام: "قصي بن كلاب" نظام "الإيلاف" المعروف), فباشرت في البداية عملها بإرسال دوريات استطلاع صغيرة وقصيرة المدى (السرايا)، ثم انتقلت إلى القيام بعملية تعرضية كبرى أدت إلى الاشتباك مع قوة مشركي مكة في المعركة المعروفة "بدر" (السنة الثانية للهجرة)، وهي المعركة التي أعلنت الجماعة الإسلامية كقوة جديدة صاعدة في الحجاز والجزيرة العربية، لم يطل بها الوقت حتى كانت خيلها ودعوتها التغييرية تدخل مكة فاتحة في السنة الثامنة للهجرة (630 ميلادية)، مدشنة بذلك عهداً جديداً للعرب (اكتمل في عام الوفود: السنة العاشرة للهجرة- 632 ميلادية)... عهدا انتقلوا فيه من جماعات قبلية متناحرة ذات ولاءات ومرجعيات وأعراف متباينة، ومداخلات هيمنة أجنبية متعددة: (الاحباش، الفرس، الروم) إلى أمة مستقلة موحدة لها قيادة ومرجعية واحدة (الرسول والقرآن) ومدينة –مركز (عاصمة) واحدة أيضاً (المدينةالمنورة). * * * ولمعرفتهم بأهمية "الهجرة" ودورها المفصلي في تاريخهم وحياتهم، وتأكيداً منهم على تميز شخصيتهم الحضارية- القومية، وإدراكهم لذاتهم وهويتهم الجديدة، اختار العرب المسلمون "الهجرة" مبدءاً للتقويم، كناية عن خروجهم من أزمنة وتقاويم الآخرين، وبدئهم لعهد جديد سرعان ما سَيَمُدُّ إشعاعاته وظلاله ليرُجَّ العالم الذي أسمته المركزانية الأوروبية: "القرون الوسطى" ويغيره.