نتوخى من هذا المقال إستجلاء معالم وملامح موجة الإنتفاضات والثورات الشعبية التي تجتاح الوطن العربي بداية القرن 21، والذي هو قرن عربي بإمتياز بإعتبار التحولات والتغيرات التي سوف تعرفها المجتمعات العربية خلال هذا القرن، بالإضافة إلى الدور التاريخي الذي ستلعبه هذه الأحداث والوقائع في تغير وتحول المسار التاريخي للإنسانية. لقد أضحى من الضروري قراءة الإنتفاضات والثورات الشعبية في الوطن العربي قراءة تاريخية علمية تستلزم إستحضار الثورات الكبرى التي عرفتها الإنسانية، ونعني بالذكر الثورة الفرنسية (1789 م)، وكذا الثوراة التي أعقبتها سواء داخل القارة الأوربية أو القارة الأمريكية والتي إمتدت على مدى ثلاثة قرون (الحرب العالمية 1و2). تاريخ صنعت فيه الشعوب الغربية تاريخها الخاص وكذا تاريخ البشرية على حد سواء منذ النهضة الأوربية في القرن 15، كما جعل هذا التاريخ المجتمعات الغربية نموذجا للحداثة مما خول لهذه المجتمعات إحتلال مكانة الصدارة على الصعيد الكوني. لذا، نعتبر أن الثورات والإنتفاضات الشعبية العربية لحظة حاسمة وفرصة فريدة من أجل دخول هذه المجتمعات إلى التاريخ الحديث والمعاصر من بابه الواسع، تاريخ الحداثة والديمقراطية والتقدم... وقبل قراءة الملامح الأولية لهذه الثورات والإنتفاضات الشعبية في الوطن العربي، نقف على ملاحظات اساسية نذكر منها: إستمرارية هذه الثورات والإنتفاضات الشعبية بأشكالها المختلفة والمتنوعة على المدى القريب والمتوسط، مقدمة ضرورية لتحقيق التغير والتحول السياسي المنشود في المجتمعات العربية في أفق بناء مجتمع عربي ديمقراطية وحداثي متكامل ومتجانس. شرط الكثلة التاريخية كخطوة أولية نحو بناء وطن عربي قوي وموحد. تأخذ التمردات طابع الصراعات الأفقية، في حين تعد الإنتفاضات صراعات عمودية. لذا، فإن شرط التحولات السياسية في الوطن العربي رهين بإنتقال هذه الثورات والإنتفاضات إلى صراعات عمودية وأفقية على حد سواء، بمعنى أن هذه الصراعات إذا كانت في شكلها الحالي تستهذف رموز السلطة في الوطن العربي، فإنها مستقبلا يمكن أن تستهذف أيضا الفئات والطبقات الإجتماعية المهيمنة (بكسر الميم) التي تقف وراء هذه الرموز السلطوية. إنتشار الثورات والإنتفاضات الشعبية داخل أكبر عدد ممكن من المجتمعات العربية (حالة أوروبا الشرقية سابقا) سوف يتيح إمكانية الحديث عن ثورة شعبية عربية. وهذا الموقف السياسي الأخير سوف يجعل موازين القوى لصالح الشعوب العربية، وبالتالي إمكانية قراءة التاريخ السياسي العربي على ضوء الوحدة السياسية في مواجهة القوى الرجعية بالداخل وجيوب المقاومة بالخارج. لايمكن فهم الثورات والإنتفاضات الشعبية في الوطن العربي إلا على ضوء الأزمات المالية الخانقة التي أصبحت تهدد الرأسمالية على الصعيد العالمي، وبالتالي ضرورة التوزيع العادل للخيرات المادية والرمزية داخل الوطن العربي كمدخل أساسي نحو إنتعاش الرأسمال العالمي والمؤسسات المالية التي تقف وراءه، كأنما لسان حال الرأسمالية الغربية يقول:( لم آمر بها، ولم تسأني). بدأت الثورة في أضعف حلقاتها، وستنتهي في أقوى حلقاتها معلنة إنتصار دولة الحق والقانون وسيادة سلطة الشعب، وبداية صيرورة التحديث السياسي في الوطن العربي كخطوة أولى على درب بناء مجتمع الحداثة والديموقراطية. هذا، وقد أبانت الشرارات الأولى للثورات والإنتفاضات الشعبية في الوطن العربي أن الشعب العربي الذي تم تغييبه ولمدة عقود من الزمن، قد أصبح طرفا أساسيا في المعادلة السياسية في الوطن العربي. فالمجتمعات العربية تضع بذلك، ولأول مرة في تاريخها الحديث والمعاصر،الخطوة الصحيحة على طريق الحداثة السياسية والبناء الديمقراطي، وبالتالي بناء الشرعية والمشروعية السياسية على أسس ديموقراطية وحداثية في إطار صيرورة التحولات المؤسساتية. وإذا كانت الشعوب العربية قد ضربت موعدا حاسما مع التاريخ، فإننا نسجل بكامل الأسف إستقالة الطبقة المثقفة التي من المفترض أن تكون طبقة الطليعة داخل هذه الصراعات الإجتماعية من خلال قيادتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة في أفق بناء مجتمع حداثي ديمقراطي. إن إستقالة الطبقة المثقفة سيأثر سلبا على هذه الثورات والإنتفاضات الشعبية في الوطن العربي، إستقالة تتمثل في غياب الدراسات والتحليلات العلمية الرصينة لهذا المسار التاريخي العربي الحديث والمعاصر، وبالتالي فإن المجتمعات العربية سوف تدخل في سلسلة من التحولات والتغيرات تعيد إنتاج نفس التجارب السابقة دون إحداث تراكم كيفي ونوعي قادر على تحقيق القفزة النوعية المنشودة، مما يتيح إمكانية هدر الطاقات والإمكانيات (التنظيمات الذاتية على سبيل المثال) من أجل إحلال النظام محل الفوضى الإجتماعية على حساب المكتسبات والحقوق التي يمكن أن تراكمها هذه اللحظات التاريخية الحاسمة في مسار التحديث السياسي في الوطن العربي. ويشكل غياب الطبقات الإجتماعية الوسطى عائقا أساسيا أمام إحداث التغيرات والتحولات السياسية المنشودة، مما يترك المجال مفتوحا أمام المزيد من الصراعات والثورات على صعيد الوطن العربي في إنتظار تشكل وتلاحم هذه الطبقات الإجتماعية على الصعيد العربي ككل. فبروز تشكيلة إجتماعية وسطى على صعيد الوطن العربي ضرورة أساسية وحتمية نحو إستقرار الأوضاع السياسية في العالم العربي. مما لاشك فيه أن دور تكنولوجيا الإعلام والإتصال دورا أساسيا في الدفع بهذه التحولات والتغيرات في الوطن العربي إلى الأمام، إلا أن هذا الدور الإيجابي يظل جزئيا لأنه محدود في الزمان والمكان. فثقافة الإعلام والإتصال ثقافة تعتمد بالدرجة الأولى على الحدث دون ربطه وتحليله تحليلا علميا رصينا. فهذا الإختصاص الأخير، يدخل ضمن مهام الأنتليجنسيا الطليعية. إن تكنولوجيا الإعلام والإتصال توجه وتؤطر بشكل من الأشكال هذه الثورات والإنتفاضات الشعبية، لكنه تأطير وتوجيه، رغم أهميته وراهنيته، يخدم مصالها ولا يخدم أهذاف وطموحات الشعوب العربية في بناء المجتمع الديموقراطي والحداثي المنشود.