يدخل الكبش البيت بصعوبة، فعرض قرنيه أكبر من عرض المدخل. بهذه اللقطة الحسية الدالة تكشف دليلة الندري في فيلمها الجديد "كلام المدينة" ضيق منازل القصبة القديمة بالدارالبيضاء. الفيلم يعرض بطريقة تركيبية لحال المكان الذي يصوره، الحجر والبشر. من خلال السرد بالصور طيلة ثلاث وثمانين دقيقة ذهبت المخرجة إلى عمق الأزمة: الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسر.وهي حرصت على التقاط الواقع في سخونته. فالمدينة تعيش أجواء عيد الأضحى. نكتشف شوق الأطفال للحم. يصل كرم المرشحين للانتخابات عبر توزيع الأكباش على الناخبين. جاء المرشحون من خارج أسوار المدينة القديمة. وبمجرد دفعهم أجرة المشاركة في الحملة الانتخابية، خرجت النساء والأطفال للشارع يرددون "لم يعطنا ولم نعطه، نحن أردناه". في لقطة موالية يجلب كل طفل قطعة لحم من بيته ويتم إعداد وجبة مشتركة... لذيذة لكن لا تكفي. هكذا اشترك المرشح والناخب في "اللحم والملح"، إذ لم يعد يكفي الاشتراك في "العيش والملح". انتهت الانتخابات وعاد الناس لرتابة أيامهم في غياب تام للدولة. وبدل مواجهة بؤس اللحظة، يعيش الأفراد حنينا جارفا للماضي الذهبي. وهذا، بقدر ما هو عزاء فهو أيضا عائق أمام الانعتاق. يراقب أحد السكان فوضى الأزقة ويحن للاستعمار الفرنسي الذي كان يُلقح القطط ويضع البدو في الحجز إن جاؤوا للمدينة... يعتقد الناس أن الاستعمار يحرص على نظافة المدن.بين حين وآخر ينتقد المستجوَبون في الفيلم النظام تجريديا. نسمع صوت النساء يشرّحن المغرب الفاسد. "المغرب رائع والممسكون به سيئون". في الفيلم سقف حرية عال. يبدو أن المغاربة حصلوا على حرية التعبير متأخراً. ويعكس هذا النقد حجم الانتظار الذي يغمر النظرة للنظام. والنظام هو لا أحد. وبسبب توقع المنقذ نادرا ما ينخرط بعض الشبان في محاسبة مريرة للذات.ففي عيد الميلاد العشرين لشابة، نكتشف حكاية الشباب الضائع في المدينة القديمة. منذ عام 2000 قل عدد الذين يتزوجون... البطالة كثيفة والعمل موسمي. لذا يمارس الشبان أعمالا عرَضية مثل بائع فحم وتبن وحمال أكباش في العيد. برّاح (منادي) في حملة انتخابية. حين ينتهي هذا يعرف الشبان أن في كل درب ثلاثة تجار حشيش على الأقل. وهم بديل جاهز لمن حلموا بالهجرة وتوصلوا إلى خلاصة فادحة "دخول الجنة أسهل من دخول أوروبا". شبان منهكون يعيشون بطالة مقنعة. يعبرون عن وعي سياسي ملتبس. يرددون "عاش الملك والباقي لصوص". حين يتعبون من أزقة المدينة يقصدون البحر. البحر ملاذ، يقضي فيه الصياد ست ساعات يوميا يتأمل ماء مالحا يغسل روحه وينتظر أن تغمز الصنارة. غسل الروح أهم من السمك. البحر معالج نفسي فعال.طبعا ليس الوضع النفسي للشخصيات مسألة اعتباطية، إنه نتيجة للواقع الذي تعيشه. يصوغ القيم والأنساق الفكرية التي تحكم تصور سلوك البشر تجاه محيطهم. هكذا تتحدث الشخصيات بمعجم ديني كثيف. تصف وضعها بمعجم اقتصادي ثم تعود لتبرر كل شيء بالإرادة الإلهية. فالأفراد في "يد الله". هذا الاستسلام مريح.ترصد المخرجة تحولات المدينة التي تتدهور يوما بعد آخر. هجرتها النخبة، تفر المواهب من هذه الفضاءات، ولا يبقى فيها إلا من عجز عن الفرار بجلده. بقيت فيها الحثالة الاقتصادية. وقد استنطقت دليلة الندري الجدران المتهرئة وذلك بربطها بخط أحمر، وفيه تتبع الكاميرا بعينها المدققة بائعا جوالا أعمى يسير بين الدروب المرسومة في ذاكرته. يدندن ويسخر ليعيش...على مستوى الحجر، المدينة شخصية رئيسية في الفيلم. بنايات خلف السور الذي يفصلها عن المدينةالجديدة. على باب السور برج وساعة. على أسطح المنازل ملابس منشورة، صحون صدئة، وغرف عشوائية على الأسطح لتوفير سكن إضافي. لترسيخ الصورة في ذهن المتفرج، استجوبت المخرجة شابا فوق الأسطح. المشهد من فوق صادم... من هنا تبدو المدينة شبحا.ولدت دليلة الندري في المدينة القديمة بالدارالبيضاء. وهي أعرف مني بها. وبعد عشرين سنة من العمل في السينما رجعت لبلدها المغرب لتعرض فيلما من أفلامها لأول مرة. وقد حصلت على جائزتين في مهرجان الفيلم الوثائقي بأغادير بداية أيار/مايو 2014.لحين كتابة هذا النص، وهو تحليل محتوى اجتماعي أكثر منه نقدا سينمائيا، عشتُ تسعة أشهر في الدارالبيضاء، تسعة فقط. ومع ذلك وُلدت أحياء جديدة. كانت المدينة هي الدارالبيضاء، والآن لا تساوي المدينة القديمة ولا واحداً في المئة من مجمل المساحة العامة. تقزمت خلف الأسوار بينما تمددت المدينةالجديدة في كل اتجاه وبسرعة لا تصدق. مئات العمارات بنيت وصبغت وسُكنت... بينما المدينة القديمة تتدهور عمرانيا وتكتظ ديموغرافيا بمن لا موارد لهم. وبذلك يشعر سكان المدينة القديمة، الذين كانوا ذات يوم محورا، بوزنهم يتلاشى لمصلحة أحياء جديدة مضاءة مفعمة بالخضرة.بين البشر والحجر تشابه كبير. ليست الجدران وحدها التي تتآكل، بل منظومة القيم القديمة أيضا. فالمدن القديمة ضيقة وأبوابها جد متقاربة وعلاقة سكانها متماسكة. الحومة (الحارة) تجمعهم. والاسم المغربي مشتق من الحماية. يشعر كل ساكن بأنه مسؤول عن جاره بشكل ما. يشعر السكان برابطة قوية مع المكان الذي ينتقدونه، يدركون أنه يحميهم. أما في المدينةالجديدة، أي كل ما يقع خارج السور، فهناك مبان تفصل بينها شوارع واسعة. السكان منفصلون. ويعتبر الاهتمام بالشأن الشخصي وتجاهل الغير مزيّة وليس عارا. ركزت دليلة الندري على المسحوقين بكثافة. ولا يوجد شخصية ذات أفق مفتوح في الفيلم. صحيح يجري تصوير أطفال في لقطات مضاءة بين حين وآخر، لكن المشهد يبقى سوداويا. نقلتُ هذه الخلاصة للمخرجة فردت: "ليست هذه أول مرة أتهم فيها باليأس. ففي فيلمي السابق "نساء المدينة" 2010، وقبيل عرضه في دافوس، تفضلت بعض الحاضرات بالتعبير عن استعدادهن لمساعدة هؤلاء النسوة. وحين عرض الفيلم ظهرت عزيمة تلك النساء واضحة. صحيح أن وضعهن صعب، لكنهن لم يسمحن للمتفرجات في أية لحظة بالإشفاق عليهن. وفي نهاية تغيرت نظرة الحاضرات للنساء المغربيات. بل عبّرت بعض المتفرجات عن الأسف لأنهن لا يملكن طاقة نساء الأحياء الشعبية المغربية... صحيح يُظهر البعد الأول مدى بؤس سكان المدينة القديمة. لكن هذا الوجه البئيس لا يهمني. فالبؤس موجود في كل مكان في العالم. يهمني البعد الثاني للفيلم، وفيه تظهر القدرة على المقاومة. البعد الأول سطحي والثاني عميق. أريد الذهاب عميقا ولا أريد إعطاء قيمة لمظاهر البؤس... أبحثُ عن الذين يقاومون البؤس. أبحث عن النقطة المضيئة في قلوب من أطبقتْ عليهم المدينة القديمة". محمد بنعزيز