الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب: مشاهدات في الشاوية ودكالة والرحامنة


الحلقة 12
يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر.
البرتغاليون كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى الغارات غير السلب والنهب!
الطريق إلى المدينة
عدنا إلى مواصلة مسيرنا (في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة) في اتجاه المدينة. فإذا تلك الهضبة قد صارت أشد وعورة من ذي قبل؛ فالصخور قد ملأت معظم أنحائها، حتى ما عاد ينبت فيها غير غيضات ضامرة من شجيرات الكندول. وترى في بعض الأنحاء من ذلك المكان منخفضات كثيفة العشب، ومعظمها ترى فيه غدران وهي بعد لم يجف عنها ماؤها. فلاشك أن هذه الهضبة، حيث الماء في سائر أنحائها على عمق قليل، ستكون في فصل الشتاء مجالاً رائعاً لتربية الماشيىة. وفي الساعة الساعة الحادية عشرة لاحت لأنظارنا البيوت الأولى من بلاد أولاد بن يفو. والمساكن في هذه البلاد تتكون من سور من الحجارة دون طين، يحيط بالبيت قد شيدت حيطانه كذلك من حجارة لابشدها طين، ودعل فوقها سقف من فروع الأشجار أو من القصب والقش. وكذلك تنصب خيمة في كل من تلك المسوَّرات؛ فالسكان من أنصاف الرحل. ثم سرنا ناحية اليسار مسافة كيلومترين، فلاح لنا من خلال الكثير من البنايات ضريح سيدي عبد العزيز بن يفو. ثم سرنا ساعة أخرى فإذا الأرض قد صارت أكثر غنى، فنحن الآن نقترب من بلاد الترس التي تناولناها بالحديث خلال المسار السابق. وفي الزوال وصلنا إلى سوق الاثنين التي تقوم بقربه المدينة، أو «لمدينة»، حسب النطق المغربي.
المدينة
كانت المدينة في الماضي هي العاصمة الحقيقية لدكالة الغرب، أو الغربية، وهو الاسم الذي كان يقوم في ذلك الزمان مقابلاً ل[دكالة] الشرقية، ثم كتب البقاء للاسم الأول دون الاسم الثاني. ولا تزال المدينة تعرف اليوم كذلك باسم «المدينة الغربية». والحديث يرد عنها كثيراً في الوثائق البرتغالية ولدى مارمول ودييغو دي طوريس، فقد كان لها دور ريادي في الحملات [البرتغالية] التي شهدتها تلك الحقبة البطولية. فقد رحل عنها سكانها بعد سقوط أزمور، ثم أعيد إعمارها على يدي يحيى بن تعفوفا. وقد كانت من جملة الأماكن التي احتلها البرتغاليون ولقي عليها الملك ض.[ون] منويل التهنئة من البابا ليون العاشر في إحدى رسائله البابوية. ولاشك أن المدينة قد عانت كذلك من الثورة التي أشعل فتيلها الشرفاء السعديون في سنة 1510 على البرتغاليين. وقد ألمعنا من قبل إلى النهب لذي وقع على المدينة من أخي سلطان فاس، الذي نزح بسكانها إلىى مدينته ليخلصهم من نير المسيحيين. ثم عادت المدينة بعد ذلك إلى الإعمار، غير أن الحالة الدائمة من الفوضى والاضطرابات التي تردت إليها المدينة من جراء الصراعات التي اندلعت بين السعديين، علاوة على ما وقع من المجاعات الماحقة كلها عوامل قد تردت بالسكان إلى حالة من البؤس أن صاروا لا يربأون أن يبيعوا أنفسهم إلى المسيحيين لقاء لقمة خبز. ثم لم يلبث العرب أن استقروا بالمدينة، ذلك بأن سكانها الأوائل كانوا من البربر. فلما استولى العرب صارت إلى خراب كما وقع لسائر البلاد التي وقعت في أيدي هذا القوم المنحوس من منطقة شمال إفريقيا. فقد جاء في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول : «[إنهم] لا يريدون أن يعاد تعميرها، ولا يريدون أن يقطنوا بها، لأنهم لا يحبون أن يسجنوا في منازل (...) إن القلب ليرق لرؤية مدينة بهذا القدر من الجمال في موقع حسن تكتنفها البساتين وهي الآن خربة».
نحن نشرف الآن على سور المدينة القديمة، وهو سور أقرب في شكله إلى أن يكون مربعاً، قد أحاط بثلاثين هكتاراً. وقد شيد هذا السور بالتراب وهولا يزال في حالة جيدة. وتشير التقطعات في هذا السور من خلال التصميم [أسفله] إلى المواضع المهدمة منه، سواء أكان من تلقائها أو بأدي بني البشر. ومن ذلك
أنه لما استولى نونو فرناديش دي أطايدي على المدينة في سنة 1513، وأوكل حكمها إلى يحيى بن تعفوفا، قام بهدم جانبين من ذلك السور ليمنع سكانها أسباب التحصن في أوقات التمرد والعصيان. وقد أكد المستقبل أنه كان مصيياً في مخاوفه. ونحسب أن المدينة لم تكن لها غير باب واحدة حقيقية، فالمدن الصغيرة في ذلك الوقت لم تكن لها غير باب واحدة، كما هو حال مدينة الجديدة إلى اليوم. ومن اليسير علينا أن نتعرف على بقايا تلك الباب في الناحية الجنوبية الغربية من السور. وقد كانت باباً مقوسة، كما لا يزال الشأن إلى الآن في الأبواب المغربية القديمة. ولا يبدو أنه قد كان من خندق يحف بذلك السور؛ فما كانت الخنادق تُجعل من حول الأسوار من العادات المتبعة عند البربر المغاربة. بيد أننا نلاحظ من حول الأسوار بعض المنخفضات التي ربما كان مأتاها من تلك الخنادق. غير أنني أميل إلى الاعتقاد – كما هو الشأن في سرنو – أن هذه المنخفضات إنما السبب فيها الحفر التي كانت تستخرج منها مواد البناء. وقد لا يُستبعد أن تكون تلك المنخفضات إنما أحدثت لتأمين الحماية للمدينة؛ فما كان تحصين المدينة يزيد عن بعض الأبراج التي كانت تقوم على فواصل من عشرين متراً، ولا تزال ترى لها بعض البقايا.
ويعيش اليوم في بعض الأنحاء داخل أسوار المدينة أهل الغربية. ومن المحتمل أن يكونوا هم ذرية أولئك العرب الذين تحدث عنهم مارمول في ذلك الوصف المغم الذي جاء به للمدينة. لكنهم صاروا يغلب عليهم الاستقرارأكثر مما كان في السابق. فهم يسكنون اليوم بيوتاً مشيدة من الحجارة ومن مواد بناء جاءوا بها من المدينة القديمة، غير أنها بيوت تفتقر إلى التنسيق والنظام، وبإزائها يقيمون الخيام. وتقوم في بعض المواضع من ذلك المكان بساتين من أشجار التين، وأما الزاوية الشمالية من السور فلا تكاد ترى فيها غير أكوام عظية من الحجارة، متأتية دون شك من الخراب الذي حاق بالمدينة. ويجدر بنا أن نضيف أننا علمنا من بعض المصادر في ذلك المكان أنه قد كانت يقوم هنالك، إلى عهد غير بعيد، أطلال أحد المساجد داخل ذلك السور.
يهود المدينة
وخارج ذلك السور يقوم في الناحية الغربية سور آخر قد أحاط بحوالي أربعة هكتارات، وليست له باب على الخارج، وإنما يتصل بداخل السور الأول. وأما النطاق الداخلي من السور الثاني فهو قفر خلاء، إلا من ضريح قد أقيم هنالك منذ عهد قريب بطبيعة الحال. والعادة الجارية في هذه البلاد أن هذا السور الثاني يُجعل من حول للملاح، وهو الحي الذي يقطنه اليهود من المدينة. وأما اليوم فما عاد لليهود وجود في المدينة، ولا عاد لهم وجود في سائر أنحاء دكالة، لكن الراجح أن شأنهم في الماضي كان على خلافه اليوم. وهناك أسباب عديدة تحملنا على الاعتقاد أن المسوَّر الثاني قد كان من قبل ملاحاً. ويجدر بنا أن نلاحظ أولاً أن هذا المسور يقع تحديداً في الموضع المعهود أن تقام فيه الملاحات؛ فهي تُجعل في العادة بإزاء السور الخارجي، ولا يكون غير باب واحدة تنفتح على المدينة، لكن يقام بإزاء الأسوار، والغالب فيه أن يجعل بقرب إحدى الأبواب التي تنفتح في هذا السور؛ فكذلك شأنه في فاس وفي مراكش وفي الصويرة... وثانياً ستسنح لنا الفرصة في ما يقبل من هذا الكتاب لنثبت أن اليهود كانوا يبوؤون داخل المجتمع المغربي خلال العصور الوسطى مكانة أعظم مما لهم فيه الآن. وقد وجدنا الوزان ومارمول في ما يتعلق خاصة بالبلاد التي تعنينا في هذا المقام، يكثران من الحديث عن وجود اليهود، كما في حديث [مارمول خاصة!] عن سرنو. وليس الأمر بمقتصر على ما ذكرنا، وإنما تجد الذاكرة الشعبية قد احتفظت بذكرى لزمن كان اليهود يحظون بمكانة اجتماعية أين هي من الوضع الذي صاروا إليه اليوم.
أسطورة ابن مشعل
وأما سكان المدينة في الوقت الحالي فإذا سألتهم عن تاريخ المدينة لم يجدوا ما يحدثونك به، إلا عن يهودي يدعى ابن مشعل، قد ظل يستأثر بالسيادة على تلك المدينة لوقت طويل. ويقولون إن كنزه لا يزال بطبيعة الحال في ذلك المكان، مخبَّأ في «طوفي»، أي في قبو. ذلك بأن القشرة القشرة الكلسية التي تغطي التربة في هذا الموضع تسعف على حفر الأقباء، لتُتخذ مخازن، وقد تُجعل كذلك إسطبلات للبهائم. وعلاوة على كل ما ذكرنا فإن على مقربة من المدينة يوجد موضع لم أتمكن لسوء حظي من الوقوف عليه، ويعرف باسم «سور موسى»، وقد سمعنا أنه من بقايا قصبة كان يقيم فيها يهودي يدعى موسى، وأنه قد كان هو الآخر من الملوك الذين حكموا هذه البلاد.
ومما يزيد في استغرابنا أن نجد هذه القصة التي تتحدث عن ابن مشعل، اليهودي، السيد على بلاد، وصاحب الكنوز، قد تناقلتها الكتب التي تناولت تاريخ بلدان المغرب لدى حديثها عن السلطان مولاي رشيد. فالقصة تحكي أن مبتدأ السلطان في تكوين ثروته كان بالاستيلاء بالحيلة على [أموال] شخص يدعى ابن مشعل، وهو يهودي شديد النفوذ كان يعيش في قصبة بالقرب من مدينة تازة، وقد كانت لديه أموال وذخائر طائلة قد خبأها فيها. وسيكون من الغريب، وأظن أنه سيكون من غير المحتمل، حسب الانطباع الذي تكون لديَّ في ذلك المكان، أن تكون هذه الحكاية انفلتت من [كتب] الأدب العربي لتنحفر في ذاكرة العامة. ولكم أود أن أحمل نفسي على الاعتقاد بأن المدعو ابن المشعل، اليهودي، هو من تلك الشخصيات الأسطورية، من أمثال السلطان الأكحل الذي يلصق اسمه بكل بناء قديم في المغرب. ويمكن أن نحتج في دعم هذه الأطروحة بأن الروايات التي تركها لنا المؤلفون المغاربة تعطينا الانطباع بقلة توخيها الدقة بأن قصة ابن مشعل لا تعدو أن تكون من الأساطير. ووحده أحمد بن خالد [الناصري] من أشار إلى وجود قصبة ابن مشعل في بني يزناسن [(ه. م) الواضح من الاستشهاد السابق أن الإشارة إلى وجود القصبة في بني يزناسن قد جاءت عند القادري. وأما الناصري فلم يزد عن الأخذ عن صاحب النزهة وصاحب النشر!]. ويجدر بالملاحظة كذلك أن هذه القصبة، كما هو الشأن في المدينة، بناء قديم من قبيل تلك القصبات التي يرجح أنها تحرك بأطلالها خيال الناس. وأشار محمد بن رحال الذي زار بني يزناسن إلى أن لهذه الرواية ذيوعاً وانتشاراً في المغرب. ففي بني يزناسن حيث يموضع هذه الحكاية موضع يقال له دار بن مشعل. وهنالك فخدة أخرى رأى المؤلف أن اسمها ذو أصل يهودي. وحسبنا أن نلاحظ أن وجود أسطورة ابن مشعل في المدينة كما في بني يزناسن يتفق وحكايات شعبية أخرى تتعلق باليهود. فإذا جمعنا هذه الأمر إلى التشابه الواضح الذي نراه بين المسور الصغير في المدينة وبين الملاحات في صورتها الحالية وأسوار المدينة صرنا إلى الاعتقاد أنه قد كان يوجد في هذه البلاد يهود كثر في الماضي وأنهم قد كانوا يضطلعون بدور اجتماعي هام. وسنرى في ما يقبل من هذا الكتاب أن التحليل الذي سنأتي به لبعض المؤسسات الدينية في المغرب سيكون فيه تأكيد لهذه الخلاصات.
(2 يونيو). انطلقنا من جديد وجهتنا شمالي الشمال الغربي في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة. فمررنا بإزاء ناعورة قديمة، والنواعير توجد بكثرة في هذا البلد، وجميعها متهالكة توحي بأنها تعود إلى قديم العهود. فإذا المشهد قد صار يفقد من جماله؛ فالصخور الجرداء تملأ الأرجاء، ولا تقع على شيء من الرمل في غير المنخفضات، وقد اختلط هذا الرمل بالدُّبال، فصار يشكل تربة نباتية في غاية الخصوبة، من شأنها أن تسفر عن مناطق رعوية كثيفة. والغابة ههنا يكونها نبات الكندول والدوم والبرواق ذي السيقان الطويلة والجميلة، وتتخللها كلها نباتات النجيل الطويلة، التي نراها الآن جافة، وسيقان الخرطال الطويلة التي لا يزال يطالعنا في الأرض حشافها. بل إن بساط الأرض أكثره يكونه نبات الدمويات؛ ولاشك أنها في فصل الربيع تكون كلأ طيب المذاق للماشية؛ فهي لا تزال تجد فيه مطعماً حتى الآن وقد طال الجفاف كل هذه النباتات. والصورة العامة للأرض ههنا تتألف من سلسلة تموجات موازية لساحل البحر وقد حوت في ما بينها أودية على غير عمق كبير (فلا يزيد عمقها عن 30 إلى 50 متراً). وفي هذه المنخفضات مواضع رطيبة كثيرة، يغمرها ماء الشتاء فتكون في شهر أبريل مروجاً شاسعة؛ فكنا لا نزال تطالعنا فيها مجموعة من الغدران المتفرقة. فهي بلاد مواتية للرعي. وأكثر ما يميز هذا المجال يأتيه من تلك الصخور الجرداء التي تملأ كل ناحية فيه، بحيث لا يشكل الدُّبال غير قشرة متقطعة فوقها. وحيثما انعدم الدُّبال تخلفه نباتات صخرية صفراء وسوداء وزرقاء. ولقد صيرت عوامل الطبيعة هذه الصخور إلى كثير من الأشكال الغريبة؛ فهي تارة طاولة مقطعة ومحذوذبة، وتارة أخرى سطح متصل تتخلله نتوءات صخرية، فهي تتقاطع فيه لتشكل شتى أنواع الرسوم. فالرحالة الذي يضرب في هذه الهضاب الشاسعة يشطح به الخيال كثيراً وعلى نحو أقرب إلى ال بما يطالعه من تلك الرسوم؛ ويخيل إليه كأنه يرى فيها أشكالاً من الفسيفساء أو تمثيلات لأشياء مألوفة لديه من قبيل الحذوات والسنادين والأقداح والكراسي... ثم إن السير في هذه التربة أمر في غاية الصعوبة؛ فلم يسعنا أن نقطع منها أكثر من خمسة كيلومترات في الساعة.
بين المدينة والوليدية
في الساعة الثامنة والنصف تركنا الكور على بعد خمسة كيلومترات إلى اليسار. وفي حوالي الساعة التاسعة صباحاً ها نحن بإزاء ضريح يسمى سيدي بلعباس. وداخل مسور الضريح لا تزال تنتصب بعض الأقواس قيل لنا إنها أطلال مدرسية قديمة. وبجانب الضريح غدير وبئر. وليس ببعيد أن يكون هذا المكان ضم من قبل مركزاً صغيراً يكاد اليوم يكون أثراً بعد عين. ونحن نقف الآن في واحد من تلك الأودية الموازية للبحر، والتي سبق لنا الحديث عنها. وفي هذا الوادي يقوم إلى اليمين على بعد كيلومترين أو نحوهما قبة فقراء أولاد بن عميرة، وعلى بعد ستة كيلومترات من هذا المكان تقوم قبة سيدي المعطي، وعلى بعد سبعة كيلومترات تقوم قبة سيدي عبد النبي. وهؤلاء الأولياء موجودون جميعاً داخل تراب عبدة. فلما ارتقينا الهضبة التي أمامنا وجدنا أنفسنا أمام تجمعين للسكان قد اختلطت فيهما النوايل والخيام ويقدم أحدهما على الآخر؛ إنهما لفخدة الحميطات (التي بلغناها في الساعة التاسعة والنصف)؛ ومن ذلك الموضع كنا نستبين البحر. ويجدر بالملاحظة أن السفح البحري لجميع هذه التضاريس أكثر تشبعاً بالرمل من السفح الآخر، فتكون تربة النباتية التي تغطي الصخر في هذا الموضع ذات تكوين هوائي. وبعد ذلك صارت الأرض التي تزداد وعورة، فقد صارت الأرض تغص بالحجارة المقطَّعة المناثرة، حتى لقد صارت البهائم لا تهتدي فيها إلى موطئ لقوائمها. وأما الساعة الأخيرة التي كانت تفصلنا عن قبل ساحل البحر في الوليدية (التي جئناها في الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق)، فإن المسافة التي قطعناها خلالها لم تزد عن ثلاثة كيلومترات.
آثار رفاه قديم
سرنا في طريقنا من الوليدية إلى مازكان فقد بمحاذاة الشاطئ. وإن وصف هذا الشاطئ شيء أرجئه، كما سبق لي أن قلت، إلى موضع آخر من هذا الكتاب، ولذلك أعفي نفسي ههنا من الإتيان له بتصوير. إن مرحلة يوم 2 يونيو تنتهي إلى زاوية سيدي أحمد بن مبارك، وأما مرحلة بعد الغد فسيكون منتهاها إلى مزكان. وسوف لا أستقي من مذكرتي إلا المقطع التالي، والذي من شأنه أن يساعدنا على تجلية مسألة مهمة؛ أريد بها الرفاه الذي كانت تنعم به في الماضي بلاد دكالة، ونعمت به المناطق التي نمر بها الآن بوجه عام. «في الساعة السادسة وخمس وثلاثين دقيقة مررنا بقرب أطلال سانية بومهدي». وكلمة» سانية»، التي تدل في العادة على «العجلة المائية الرافعة ذات القواديس»، وهي النورية، كثيراً ما تطلق في هذه البلاد يراد بها لها «البستان». ثم إننا نرى النواعير حيثما ولينا بأوجهنا من هذه الناحية؛ فهي فيها كثرة كثيرة. وليس من باب المبالغة أن نقول إن النوريات تملأ، حقيقة لامجازاً، الوادي الذي نسلكه الآن؛ حتى لا يكاد يخلو منها موضع فيه. وليس ببعيد أن هذا المكان كان من قبل بستاناً مترامي الأطراف». إنها كلمات كتبتها في عين المكان، ولذلك أعيدها ههنا من غير نقصان ولا زيادة.
فيكون قد مر زمن على هذه البوادي كانت فيه تغطيها كلها الزراعات، وليس ببعيد أن تكون العناية التي كانت تلقاها في السقي قد مكن فيها للأشجار، ويخيل إلينا أنه قد وجدت بساتين للخضار في الأماكن التي نراها اليوم لا تزيد عن زراعة الحبوب. وقد كان هذا الموضع يمتلئ من تلك المدن الصغيرة؛ على غرار سرنو والمدينة. وجملة القول إن هذه البلاد قد نعمت بقدر من الرفاه لم تعرف إليه سبيلاً في ما تلا من الزمان. ولاشك أن هذه البلاد لا تزال تعرف الزراعة، لكنها باتت فيها دون سالف عهدها من الكثافة. وليس ببعيد أن يكون زوال المدن قد أدى إلى اندثار الصنائع؛ فليس لها حظ في البقاء إلا مع حياة الاستقرار في المدن.
السيطرة البرتغالية
القول إن المدن كانت كثيرة من قبل في دكالة فليس هو بالأمر الشكوك فيه؛ فقد وجدنا حديثاً عنها وتصويراً لها عند كل من الوزان ومارمول. ومنها ما كان معروفاً على نطاق واسع، فلا تفتأ تطالعنا الخرائط بأسمائها؛ من قبيل «أيير» و»تيط» و»بولعوان»، وبعضها لا نلاقي مشقة في الاهتداء إليها؛ من قبيل «المدينة» و»سرنو» و»ميات بير». بل إننا يوم أن يُشرع في الأبحاث سنقع على المدن التي يذكرها الوزان ومارمول وكذلك تذكرها الوثائق البرتغالية بأسماء شديدة التباين في رسمها؛ من قبيل «السبيت» و»تامراكشت» و»تركا» و»كيا» و»بني قصيز» و»تلمز» و»أوميز»، و»أوكيريز» و»خورجيدان» و»نومار» وسواها. وقولهم إن هذه المدن قد عرفت نشاطاً كبيراً في مجالي التجارة والحرف، فهو أمر ربما أمكن أن نقع له على تأكيد في وجود اليهود، الذي سعينا إلى التحقق منه، في هذه المدن. لكن الثابت أن البرتغاليين قد أفادوا من هذه المدن الخيرات الكثيرة، بما يحملنا على الاعتقاد أنهم كانوا من أسباب الخراب الذي حاق بهذه البلاد، لفرط النهب والاستنزاف الذي وقع منهم على خيراتها.
ومن المعلوم أنه عندما تم لنونو فرنانديش الاستيلاء على مدينة آسفي قام بإعمال النهب والتخريب في سائر أنحاء البلاد، ثم قام الشرفاء السعديون فحشدوا السكان في ثورة عليهم لم يكتب لها النجاح. وعلى أثر ذلك شن برتغاليو آسفي غارات غنموا فهيا الكثير. فقد ورد في الترجمة الفرنسية لكتاب مارمول : «وأسر خمسمائة وسبعة وستين، سواء من الصغار والكبار، وغنمت خمسة آلاف رأس من الماشية وألف ثور أو بقرة، وثلاثمائة جمل، مع عدد من الخيل والدواب، وعادوا بها إلى آسفي منتصرين». ولو أن البرتغاليون لم يقوموا بهذه الغارات إلا بدفع الانتقام لقد كان يمكن للبلاد أن تنهض من جديد، وواقع الأمر أنهم كانوا يعتبرون الأقاليم الغريبة مناجم يجب استنزافها، وما كان يدفعهم إلى تلك الغارات غير السلب والنهب. ولأجل تحقيق هذا المراد قاموا باستمالة قسم من سكان هذه البلاد إلى جانبهم، واجتذبوا إليهم رؤساءهم، ويظل يحيى بن تعفوفا [يحيى بن تعففت] الشخصية الأبرز بين هؤلاء الرؤساء الأهالي.
وما كان البرتغاليون يقتصرون بالنهب والاستنزاف على الموارد الطبيعية للبلاد، بل أوقعوا ساكنتها في براثن الفقر. ومن المعلوم أن الرق كان شيئاً شائعاً في مدينة لشبونة، وقد كان حكام آسفي من بين المزودين لأسواق الرقيق في البرتغال. وما أكثر ما نقرأ لهذين الكاتبين قولهما : «وأرسل عدداً من الأسرى ليباعوا ليباعوا في البرتغال». وكتب المؤلف عن مدينة «حيا» )والقصود بها حاحا(، والتي لا تزال بحاجة إلى تحديد : «هاجم نونو فرنانديث المدينة في سنة 1514 ومعه يحيى بن تعففت، وجاء منها بأسيرات لم تشهد البرتغال مثيلات لهن في الجمال منذ وقت طويل». ويفيدنا المؤلف كذلك أن في تلك السنة نفسها، وخلال المعركة التي كانت فيها هزيمة أخي ملك فاس، «نهب المسيحيون المعسكر، وأسروا فيه خمسمائة وثمانين رجلاً وجميع النساء والأطفال والشيوخ الذين عثر عليهم بالمعركة. فكان الأسرى من نصيب المسيحيين، والغنيمة من نصيب الحلفاء». تلك هي الصورة التي كان يدري بها اقتسام الغنائم، ولاشك أن مثل هذا الاستنزاف من شأنه أن ينحدر بالبلاد إلى الفقر في وقت وجيز؛ فلا يعود مجال للاستغراب أن نرى من تبقى سكان «المدينة» يأتون بدافع البؤس ليجعلوا من أنفسهم عبيداً [عند البرتغاليين]. وبعد أن ذكر مارمول الأتاوات التي كان الحلفاء يدفعونها إلى ملك البرتغال، زاد قائلاً : «وزيادة على هذا، كان البرتغاليون يشنون غارات على داخل البلاد بصحبة حلفائهم، ويقبضون الإتاوات من الأقاليم المجاورة أو ينهبونها ويأسرون السكان». فصار السكان يفرون طواعية من المدن بعد أن حُرموا فيها الأمن والأمان. فخلال الحملة التي قام أخو ملك فاس، والتي سبق لنا الحديث عنها، نزح عن تيط والمدينة والسبيت وبلعوان وميات بير سكانها وبقيت من بعدهم فارغة، وتلقى ملك فاس الهاربين. ويتحدث مارمول كثيراً عن المدن التي فرغت من سكانها وقت أن وقعت في قبضة البرتغاليين، ثم عاد إليها السكان بعد أن تخلصت من قبضة البرتغاليين، في ما خلا مازكان التي لا يزالون لم يتركوها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.