يمكن أن نحدد موقع فجيج الحاضرة بأنها واحة صغيرة جدا في الجنوب الشرقي على الحدود المغربية - الجزائرية ، كانت تهبّ عليها نسمات هواء الشمال قبل أن تخنقها جماعة عبو الأكحل حتى كادت أضلاعها تتفرقع .. في الماضي كانت فجيج مبسوطة الأكناف ، مترامية الأطراف ، تشبه في شساعتها امبراطوريّة الرشيد العباسي ، هذا كان يقول للسحابة أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك ، وأهل فجيج كانوا إذْ يروْن السحابة تبتعد عن الواحة الأم تتوزع أمانيهم وأدعيتهم شرقا وغربا .. كل يدعو أن تفرغ حمولتها المباركة في ناحيته وأرضه ، فيحملون الزرع والتمور والأعناب ومن شتى الثمرات ، وآه ، لو أن شيئا مضى يعود !!.. ليس هذا كلاما للاستهلاك العاطفي .. نعم لقد آلمنا في أعماق ذواتنا أنْ مزّق الاستعمار أوصال فجيج إلى هذه الدرجة التي غدت معها أضْيق من مبعج الضب والنخروب .. ولقد يشفي نفوسنا المفجوعة أن ندخل في لغة بكائية منتحبة تخفف عنها الحزن الممض مما فعله التقسيم الإداريّ الجديد ، فتقلّص التقلّص ، حتى أصبحت فجيج أضيق من سم الخياط على ناظم السلك .. ويحفظ الله أن تختم حياتها بتقطيع جديد .. ويستُرُ الله أن نُرْكل بسوء التقدير إلى جهة درعة - تافيلالْتْ ركْلا ، لا لعيْب فيها و لا في أهلها ، كلاّ وألف كلاّ ، ولكن ، حتى لا يتمسّك غريق بغريق ، ونسحق معا أو نصبح بذيول الجهات الأخرى مستمسكين .. إننا نصلح لبعضنا في كل الأمور إلا في مثل هاته التكتلات التي يغطي فيها القويّ على الضعفاء من طينتنا الصحراوية التي لا تملك إلا نخلها الباسقات .. وتمورها كانت في الزمان القديم حرزا منيعا ضد المجاعات التي كانت تحصد الأرواح في كل بلد لا نخل فيه .. ولكن الزمان تغيّر وفرض علينا أن نتغيّر معه وإلاّ ... ورغم الرواجف والروادف ، وضياع جزء من إيالتنا الشريفة على أيدي المستعمرين الأنكاد ، فإن التاريخ ووثائقه ستردد على الدوام : إن بشّار كانت من أعمال فجيج ، وأن أهلها كانوا متعلقين بالوطن الأم وملوكه المتعاقبين ، حتى قال شاعرهم أحمد بن مبارك بن مسعود الجلولي المنيعي بعد اتفاقية الكباص المشؤومة ، يهجوه : الله يلْعنْ الكبّاصْ لّي باعْنا لْسوسْبْيارْ وسلْطانّا خْلاهْ الذلّْ مسْكينْ ما لْقى نعْره .. إلخ [ دو سوسبيال : ضابط فرنسي كان قائدا بملحقة زوزفانة بتاغيت من بشار ، كان طاغية متجبرا ، توفي عام 1939 م بمدينة نانسي ] وستردّدُ أن القنادسة كانت ملكا خاصا لأولاد بوسنينة الفجيجيين قبل أن يبيعوها لآل سيدي مْحمد بن بوزيان .. وأنا ولدتُ بالقنادسة مثل العشرات عبر القصور الفجيجية ، ونحن حتى يتوفّانا الله كنا الأمل ، و صرنا بعد اليأس نمثّل الشاهد المادّي الملموس على أنها أرض مغربية اقتُطعتْ من الوطن الأم ، وأبناؤها فيها لا يزالون يسرحون ويرتعون ، حتى إذا أيسوا عادوا إلى فجيج .. وإلى وقت قريب كان جْنان بورزْك وما قاربه ملكية سابغة لأولاد سيدي عبد الجبار .. هذا العلاّمة الصالح الذي وثّق أملاكه منذ ستة قرون لتكون بيد ذريته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ظنا منه أن الأمة الإسلامية ستبقى على أخوتها ولحمتها واحدة موحّدة ، فذكر منها نخلا وحرثا وماء في العين الصفراء ، وبشار ، وموغل ، وقرية الأحمر ، ووادي بويعْلى ، علاوة على جْنان بورزْكْ .. كلها الآن كالمعيْدي تُسمع ولا تُرى !! تغيّرت لغة الجغرافيا ، ومن يدري ، فلعلّه قريبا أن تتغيّر معه لغة التاريخ فتتحدّث الأفواه والأقلام عن نقوش كذا ، ويخترعون تاريخا لكذا ... بدل نقوش فجيج الأم وتاريخها .. أما المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وحتى السياسية التي نجمت عن هذا الإحصار والانحسار فقد أصابت صفحات بيضاء ادّخرتها فجيج لتكتب عليها تاريخها المجيد فراحت تملؤها بما ينغّص القلوب ، ويعطّل عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية .. فجيج كانت في القديم جوهرة من جواهر المغرب الكبير تتوسطه وتتحكم في قرى وأرياف عديدة بعيدة ، بل قرأت لدى أحد الكتّاب الفرنسيين أنها مكّة المغرب .. واليوم يتحدّث الناس عن فجيج الحدودية النائية ، الصغيرة ، المقفلة ، المبعثرة ، المحرومة ، المقهورة ، التي جرّدها الجار الظالم من قلبها النابض زوزفانة وأحوازه .. مع أن أحدا لم يُسْد لهذا الجار من المعروف اللامشروط ما أسدى أهل فجيج ؛ رعيا للجوار ، واستجابة للأخوة الإسلامية .. مددنا يدا فأعطيْنا ، ومدّوا يدا فأخذوا أخذ قطاع الطرق .. وشتّان ما هما !! ليست الارض هي التي انتقصت أطرافها فحسبُ ، وإنما ، نقصت من فجيج عناصر كانت مركزية جدا في تجسيد شخصيتها ، فأبناؤها لم يعودوا يصدحون بالقرآن العظيم .. ومساجدها لم تعد تكتظ بروّاد العبادة والعلم ، والصغير لا يوقّر الكبير ، وتراثها المادي واللامادي ينوح تحت ضربات المهملين والمضاربين .. وما أظن أن تهارش الناس وتراشقهم ، وتنامي خلافاتهم ، إلا انعكاس مباشر وسريع لتدمير الجزء الأكبر من هذا الكنز العظيم ، ويوم يختفي تنقرض معه الشخصية الفجيجية ، ونغدو قشورا تمشي على الأرض ، ماضينا سراب .. وذاكرتنا رماد تذروه الرياح .. وعافيتُنا غارتْ كما تغور العين في رمال صحراء ملتهبة .. ونحن مكدّسون في قاعة انتظار صغيرة نحو مستقبل ملغز غامض .. وأمامنا فرص تلوح ، قد تعيد إلينا بعضا من تلك المقومات الضائعة : أمامنا السد الذي يرادف الماء ، وما جعل الله من الماء كل شيء حي ؛ إلا لأنه يحيي الأرض كما يحيي القلوب .. ونحن بصراحة إلى حياة القلوب وتنظيفها أحوج من أي نعمة أخرى .. فإذا حييتْ القلوب وتطهرت تسلّل إلينا كل خير عميم من حيث ندري ولا ندري .. أمامنا مخطط المغرب الأخضر وما قد يحققه للبلدة من مشاريع طموحة تمس بالدرجة الأولى عمتنا النخلة ، تدفع الناس إلى الحركة والنشاط ، وتمنحنا الأمان في مستقبلنا إذا ما روعيتْ الضوابط والأصول .. أمامنا شراكات البلدية ومنظمات المجتمع المدني مع الآخر الذي غدا وجهه مألوفا جدّا بفجيج لتكرر زياراته ، عليها بصراحة أن تمدّ إليه بصرا واحدا هو بصر فجيج لا بصر القصور المتفرقة ، وعليها أن تشرك العامة ، ولو بالإخبار عن المنجزات والمشاريع والآفاق المستقبليّة بدل التكتّم والتعتيم ، حتى خيّل لشريحة معتبرة من مجتمعنا أن هؤلاء يأتون للسياحة المجانية التي ترهق الميزانيات .. ولو تم الاتفاق على إصدار نشرة سنوية ، أو منشورات دورية لهذا الغرض بشفافية ونزاهة لكان أوفق وأبعث على اطمئنان الجميع .. وأمامنا قبل كل هذا أن ينتفض شبابنا العاطل ضد نفسه ، وأول خطوة لتحقيق ذلك هو أن يقطع حبل التفكير في الهجرة والانجذاب نحو البحر .. فهذا أمل صار الآن كالمستحيل .. ثم عليه أن يفكر بمنطق الواقع ، وأقصد الإقبال المسؤول على أي عمل شريف حلال دون قيد ولا شرط ، عمل يحبّه ويتقنه ، ويعطيه الدافع نحو البحث عن الاستقرار المبني على عيش الكفاف والعفاف ، بإنشاء أسرة صغيرة يُسعدها وتسعده ، ويعيش لها وتعيش له ، فتلك نعمة كُبرى ، تزداد بها اقتناعا إذا طبّقت مبدأ الحبيب صلى الله عليه وسلم : " إذا أحب أحدكم أن يعلم قدر نعمة الله عليه فلينظر إلى من هو تحته " .. والفتنة الكبرى التي ابتُلي بها الكثير من شبابنا هي التفكير في العيش بمقاييس من هم فوق ، والانغمار في أحلام وردية يُدينها الواقع بأشدّ عبارات الإدانة .. وإنه لتفكير مُخْز مضلّل لا يورّث الشابّ إلا الأمل الطويل الكاذب ، ويضيّع عليه حياة المسؤولية ، ويضيفه إلى قافلة العزّاب التي ما فتئ ركّابها يتعاظمون يوما عن يوم !! وفجيج في حاجة إلى التئام شبابها ذكورا وإناثا تحت سقوف الزوجية ، زوجية المودّة والسكينة والقناعة والتوافق ، والتعاون على الخروج الأخير من عتبات دار الدنيا سالمين من تبعاتها ، غانمين من الزاد الخالد .. لا زوجية الشقاق واللهاث وراء متاع زائل .. وروح ذلك كله كامن في عبادة الله ، والرضا بما قسم الله ، وعدم استشراف ما لا تمسكه اليد .. وحياتنا بطولها وعرضها ، ومسراتها وأتراحها اختصرها الرسول الكريم في هذه الحكمة البالغة البليغة ، التي تفعل في النفوس المؤمنة ما لا تفعله أنجع الأدوية : " مالي ولِلدُّنيا ؟! ما أنا في الدُّنيا إلاّ كراكِبٍ استظلَّ تحتَ شجَرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها " .. فاحرص أخي الشاب على أن يكون معك في ظل هذه الشجرة من يؤنسك إذا استوحشْت ، ويهفو إلى نجدتك إذا استصرخت ، ويكون لك يدا إذا عجزت ، وعليْك دمعا إذا اصطفاك الله عنده ، وتدّخره خليفة خير لا ينقطع به نسلك ، ولا يخمد ذكرك ، فإنك لا تدري متى تهبّ عليك نسمات الموت الذي يهزم اللذات ويهدمها .. وإياك أن تستظل بها وحيدا فتروعك طلائع الأشباح ، وتتحاشاك مناسبات المسرّات والأفرح .. وكل نعمة تأكلها وحدك هي بالعلف أشبه ، وعزلتك تحتها ليست زهد منقطع عن الدنيا مع اقتدار ، بل هي هروب إنسان فاشل عاجز متخاذل منهار ، ضاق به فسيح الأرض فتخلّى ، وأمره الرسول بالزواج فأعرض وتولّى .. فيا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فلْيتزوّجْ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج .. حصّننا الله وإياكم من كل خزي وسوء ، وختم لنا بما ختم لعباده المحسنين .. آمين