قد يتساءل متسائل، غير خبير بالعمق والرسوخ المغربي في الحكمة والنبل والصمود، وهو يستمع للخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لانطلاق المسيرة الخضراء المباركة، من أين للمغرب كل هذه الثقة في عدالة وشرعية قضية وحدته الترابية، وسط الهجمات والطعنات المتواصلة من قبل جيرانه، ووسط كل هذه الأطماع والاستفزازات المتلونة طيلة خمس وأربعين سنة، لم يهدأ فيها بال لحكام الجزائر، منذ اختلاق الكيان الوهمي، وجمع الأحلاف، ثم الطواف بالأطروحة الانفصالية أرجاء المعمور، وأروقة المنتظمات القارية والدولية، وتمويلها بالسلاح والعتاد والحملات الدعائية، وشراء الذمم وإرشاء الأنظمة، إلى غاية وضع جميع العارقيل أمام التوجهات الدولية لطي صفحة هذا الماضي البئيس، ببحث حل سياسي عادل ودائم وشامل ومتوافق عليه لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. الجواب عن سؤال هذه الثقة المغربية التي تتوطد يوما عن يوم، كامن في جوهر عدالة وشرعية قضية الوحدة الترابية المغربية نفسها في ذاتها وفي مضمونها التحرري وفي نجاعة الأسلوب الحضاري المعتمد في المغرب لمواجهة تحديات استرجاع أجزاء من ترابه بعد الاستقلال وانتهاء عهد الكفاح المسلح، وكانت المسيرة الخضراء المظفرة عنوان هذه المرحلة مثلما كانت مسيرة السلام العالمية آنذاك تتلمس طريقها إلى المؤسسات الدولية وإلى العلاقات بين الدول والشعوب لإنهاء مخلفات الحروب المدمرة، والتداول بشأن السبل الفضلى والمثلى لحل النزاعات الدولية، خصوصا منها النزاعات الترابية. كانت المسيرة الخضراء المغربية سباقة إلى استشراف هذا المستقبل السلمي، فيما كان خصوم المغرب لا يزالون غارقين في كوابيس الحروب والدماء والانتقامات المسلحة، التي من آثارها ما يعيشونه اليوم من حصار السلام لأطروحاتهم الحربية، ومن مشاهد استفزازية مؤسفة تثير الشفقة أكثر مما تثيره من مخاوف. لم يكن المغرب عند إعطاء الانطلاقة لمسيرته الخضراء المباركة يتوهم أن هذه المسيرة في توقيتها وفي بعدها الزمني والتاريخي، ستتكفل حينها بوضع حد لكل الأطماع الاستعمارية في الصحراء المغربية، بل كان متيقنا، أنها البداية الممكنة للتصفية التدريجية للاستعمار ومخلفاته من خراب وأحقاد ودسائس، مما يتطلب امتدادات للمسيرة في المستقبل وإلى ما لا نهاية، وأنها ستكون درسا في التأسيس المستقبلي لإطار سلمي لحل ما سيفتعل بعدها من عراقيل، وكذلك كان. ولذلك حرص الخطاب الملكي السامي على الإشارة إلى هذه الحقيقة في مناسبة إحياء ذكرى انطلاقة هذه المسيرة، في تأكيد جلالته أن المسيرة الخضراء "مسيرة متجددة ومتواصلة"، تجددها وتواصلها يعني أنها سيرورة وليست حدثا، وأنها لم تنه كل وعودها، وأنها تعم كل ما يتصل بجوهرها وفلسفتها وقيمها التي على رأسها النضال السلمي لاسترجاع الحقوق والدفاع عنها وتكريسها، وكذلك قيمها في البناء والتعمير والإصلاح والاستصلاح ومد اليد للتعاون على الخير والتعبئة الجماعية لرفع الضرر، وكلها تتطلب نفسا طويلا وصبرا جميلا وروحا مجبولة على اتخاذ المواقف البناءة والإيجابية والتجاوز عن المسيء. وهذا ما يفسر استمرار روح هذه المسيرة الخضراء في ما عبر عنه الخطاب الملكي السامي، من "التشبث الدائم بالمنطق والحكمة" في مواجهة الاستفزازات و"الثقة بأن الأممالمتحدة والمينورسو، سيواصلون القيام بواجبهم في حماية وقف إطلاق النار بالمنطقة". ماذا بقي لخصوم الوحدة الترابية للبلاد في مواجهة الإطار السلمي الجديد الذي وضع فيه المنتظم الأممي قضية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، غير ما معهم أصلا من تمديد لمسيرتهم الدموية والحربية في البذائات والاستفزازات والرفض المطلق لمسارات الحل السياسي التفاوضي. ففيما تواصل المسيرة الخضراء المباركة نجاحاتها في الإقناع بالسلام والاستقرار والوحدة، يواصلون هم رفع أعلام القطيعة والتجزيئ والتقسيم ودق طبول الحرب، وفيما تواصل المسيرة الخضراء مد المزيد من الطرق وفتح بلدان الجوار الإفريقي بعضها على بعض، يواصلون هم قطع الطرق ووضع العراقيل، ومنع تبادل المصالح وتعسير سلاسة الحياة، وكأنهم يقفون في وجه مجرى المياه، أو ضد مجرى التاريخ الذي سيجرفهم في طريقه، وفيما تواصل المسيرة الخضراء بكل عزم وثقة توطيد دعائم الاستقرار، وزرع الأقاليم الصحراوية خضرة وحياة ونورا، يواصلون هم زرع الأوهام والأشواك والعراقيل وحكاية الكوابيس في مخيمات الظلام، عن زيد من الناس اختطفوه واغتالوه، وعن عمرو من القوم انتزعوه من بين أهله وصادروا حقه في العودة إلى وطنه، وحولوا مخيمات الاعتقال إلى مقبرة أشباح تستجدى بها المساعدات وتصور منها مسلسلات الرعب ومشاهد البؤس والحرمان. إن استحضار روح المسيرة الخضراء في المسيرات السلمية الجديدة للمغرب وللمنتظم الأممي ولدول العالم التي نبه جلالته إلى استمرار مسيرة انخراطها في تكريس قضية الوحدة الترابية لبلادنا، سواء بفتح قنصلياتها بالمدن العامرة لأقاليمنا الصحراوية، أو بإبرام شراكات استراتيجية مع بلادنا تشمل هذه الأقاليم بدون تحفظ، أو بتراجع عدد الدول المعترفة بالكيان الوهمي، أو بتثمين المقترح المغربي للحكم الذاتي بأقاليمنا الصحراوية، كلها تعبر عن نجاحات باهرة للمسيرة الخضراء المباركة، ولعل أكبر نجاح لها أنها كشفت من سلميتها عن لا تاريخية ولا واقعية ولا سلمية الكيان الوهمي المزروع على الحدود الجزائرية، بهدف واحد ووحيد يتمثل في هويته التي خلق بها أصلا وهي زعزعة الاستقرار بالمنطقة والحد من طموحات المغرب وتطلعاته الإقليمية والدولية في بناء علاقات جوار وصداقة على أساس من الندية والشراكة لا التبعية والاستجداء والإملاء. لقد كشف للعالم أجمع أن الكيان الوهمي جزء من أجندة سياسية داخلية وخارجية لبلد شقيق، ومن ثمة تتوسع في المخاطبات الدولية والأممية فكرة "الجزائر طرفا في النزاع" ودعوات الجزائر للانخراط الجدي والمسؤول في بحث سبل التعاون على إيجاد حل سياسي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. وإلى حين أن تقرر الجزائر الشقيقة توقيت إنهاء كيانها الوهمي المصطنع ونقل فزاعتها إلى متحف التاريخ المعاصر، فإن المسيرة الخضراء المتوهجة تواصل فتح الأبواب والقلوب والحدود على مصراعيها لتحقيق مكاسب على الأرض لأبناء الصحراء المغربية، تجعل منطقتهم جوهرة في محيطها المغاربي والإفريقي، وشوكة في حلق عدوها الذي لم يتبق له من مخططاته ومؤامراته وأحلامه إلا استفزازات سينمائية وسباب الصباح والمساء، وبعض انتفاضات اليأس ونوبات الصرع، التي تبعث على الشفقة من بلوغ هذه الدرجة القصوى في التحلل والانحطاط.