في إطار تنزيل مضامين الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، وهي المضامين التي تشكل برنامج عمل مدقق وموجه على المديين القريب والمتوسط، لمواجهة الأزمة الناتجة عن الظرفية الوبائية من جهة، وتحيين المشاريع التنموية بمخططات للنهوض بالاستثمار والإنتاج والرأسمال المادي الوطني، وتوفير الحماية الاجتماعية للرأسمال البشري، ورصد ملايير الدراهم لهذه المشاريع، من جهة أخرى، أكد جلالة الملك على ضرورة اعتماد مبادئ الحكامة الجيدة في هذا التنزيل، لضمان نجاح الخطط والمشاريع على الوجه الأمثل، ولعل أبرز آليات ومداخل هذه الحكامة، ما كان جلالته قد حدده في أكثر من خطاب ورسالة ومبادرة، وأكده في هذا الخطاب، وهو الانطلاق في كل المشاريع الجماعية، من ثلاث مقاربات متكاملة، هي أس كل عمل يروم التعبئة الجماعية لإحداث تغيير أو إنجاز إصلاح في منظومة أو إرساء مشروع أو تثمين مكتسب، وهذه المقاربات الثلاث تتمثل في المقاربة التشاورية، والمقاربة التشاركية، والمقاربة التعاقدية. الأولى تتعلق بتوسيع دائرة النقاش والانفتاح على جميع الفعاليات الوطنية ذات الصلة بالمشروع وإطلاق مشاورات تهم جمع المعلومات كما تهم تجميع الآراء والتقدم باقتراحات، وبسط منهجية التدبير والنظر في الأولويات والأسبقيات، إلى غير ذلك من أرضيات التشاور والتوافق والتفكير الجماعي الذي يحترم التنوع والتعدد والاختلاف في نسيج الرأي ووجهات النظر في الاختلالات المرصودة وفي إمكانات الحل المناسبة. والمقاربة الثانية، تتعلق بابتكار شراكات مدروسة ومفيدة، يتم بواسطتها تجميع الجهود والتدخلات والإمكانات المتاحة وتوجيهها لفائدة المشروع، وتوسيع قاعدة الاستفادة والربح وزيادة المردودية، وحفز المساهمين على الانخراط في شراكات أكبر وأقدر على مواجهة متطلبات الإنتاج والعمل سواء تعلقت بالبنيات التحتية أو بالتمويلات النقدية، أو بالخبرات والكفاءات. والمقاربة الثالثة تتعلق بتبني آلية التعاقد بين مختلف الفرقاء والشركاء، تُضمن بها التقائية التدخلات والجهود، ويتحقق من خلالها إحداث إضافة نوعية في تدبير قطاع أو مشروع أو مجال، وتحسين أدائه وجودة خدماته، وتتحدد بموجبها المسؤوليات والالتزامات والحقوق والواجبات، وتُحفظ من الانتهاك أو الإخلال، بما تقرره هذه التعاقدات من ربط المسؤولية بالمحاسبة. إن كثيرا من الفرص التنموية والجهود الإصلاحية تهدر هدرا بسبب من الارتجال والتخبط في الانطلاق، وضعف في التخطيط والتدبير، والتي يمكن ردها جميعها إلى عدم اعتماد مداخل قوية وأرضيات صلبة، توفرها المقاربات التي تؤطر العلاقات بين جميع الأطراف المتدخلة في العمل أو المشروع. ولهذا شدد الخطاب الملكي بشأن خطة الإنعاش الاقتصادي مثلا، على "ضرورة أن يتم تنزيلها في إطار تعاقد وطني بناء، بين الدولة والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، من أجل ضمان شروط نجاحها، انطلاقا من تلازم الحقوق والواجبات"، كما دعا بشأن النهوض بالمجال الاجتماعي، إلى ضرورة "التشاور الواسع، مع جميع الشركاء، واعتماد قيادة مبتكرة وناجعة لهذا المشروع المجتمعي"، واقترح "التأسيس لعقد اجتماعي جديد"، بواسطة تدابير عملية وغير مسبوقة لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة. ومن شأن إعمال هذه المقاربات التشاورية والتشاركية والتعاقدية، في كل ما نقدم عليه من مبادرات للرفع من قدرات وأداء المقاولات الإنتاجية، أو لتحسين ظروف عيش المواطنين، وحل الأزمات الاجتماعية، وإصلاح منظومة أو تطويرها، أن يجنب مشاريعنا الانسدادات والأزمات، ويفتح أبواب الأمل والعمل في وجه الاستثمار لصالح الوطن. ومن ثمة كان التفات الخطاب الملكي إلى ضرورة أن تعطي الدولة والمقاولات العمومية أولا، المثال في هذه الحكامة التدبيرية الجيدة، و"أن تكون رافعة للتنمية، وليس عائقا لها"، وما ذلك إلا لأن مسؤوليات القيادة الناجعة للمشاريع التنموية، تفرض على الدولة وعلى الحكومة وعلى القطاع العام أن يكونوا أول من يقدم نموذجا عن الحكامة الجيدة وعن ربط المسؤولية بالمحاسبة وعن الكفاءة في إدارة الأزمات وتحصيل التوافقات والاتفاقات والتعاقدات والمشاورات الموسعة، التي تضمن بها تعبئة وانخراط الجهود في العمل الإصلاحي، ودعم الثقة في المشاريع التنموية. ولعل تجديد الخطاب الملكي السامي الدعوة إلى إحداث ثورة في العقليات وتغيير أساليب التفكير والتدبير، التي تحول دون تنزيل الإصلاحات وتلتف على المشاريع بالتعطيل والتجميد والتفكيك، أن يكون حافزا للفاعل الحكومي والحزبي والجماعي والجمعوي، مرة أخرى لاعتماد إجراءات جريئة في استقطاب الكفاءات وجذب العقليات القادرة على مواكبة الإصلاح والتغيير، والمبادرة إلى ابتكار أساليب جديدة في الخدمة والإنتاج، وتحقيق الأرباح والنجاحات، واقتحام العقبات ورفع التحديات، ومحو صورة سيئة من التدبير الارتجالي والعشوائي لاستحقاقات وطن وانتظارات مواطنين.