أقحم الوزير السابق نجيب بوليف نفسه في موضوع المبادرة الملكية القاضية بتخفيف نسب الفوائد المترتبة عن تمويل الأبناك للمشاريع التي يحملها الشباب من أجل فتح مقاولاتهم، والتي حظيت بالإشادة العامة وبالإقبال الكبير عليها من قبل المستفيدين منها، وبخلقها لدينامية جديدة ومطلوبة في التفاعل مع مطالب الشباب، لِمَا فكته من طوق الجمود، وخففت به من أضرار على المشاريع الصغرى والمتوسطة خصوصا في العالم القروي، وما ترعاه من مصلحة وما ستجلبه من منافع، يُقدِّرُها الشرع الذي مداره على جلب المصالح ودرء المفاسد، والموازنة بين الضررين، وتفويت أشدهما ودفعه. لم يجد السيد بوليف عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية الذي يترأس الحكومة ما يتفاعل به مع هذه المبادرة الحميدة، إلا الغمز واللمز فيها بتدوينة مبطنة، تعبر عن منتهى التسطيح لاجتهاد محمود بذل في ظل جمود حكومي كان أحد صناعه منذ عام 2012، حينما تولى حقائب وزارية هامة وكان وزيرا مكلفا بالشؤون العامة والحكامة، ثم وزيرا منتدبا لدى وزير التجهيز والنقل واللوجستيك والماء، المكلف بالنقل، وكانت بيده مفاتيح التدبير والقرار، بما فيها مفتاح الفم والكلام في الصفقات والمقاولات والأموال المتداولة و”التمويلات الربوية”، والقروض “الربوية” الخارجية والداخلية التي تستفيد منها الحكومة لتمويل مشاريع الطرقات والنقل والتجهيز وغيرها، فلم يفعل ولم يحتج، وقبل ذلك هو نائب برلماني لعقود خلت، شغل مقعده في النيابة عن الأمة في مؤسسة تشريعية تشرع القوانين وتضع الشرائع، ولا شك أنه لم يغب عنها التشريع لمعاملات مالية كبرى أقل من التي يحتج عليها اليوم السيد بوليف. وفي سيرة السيد بوليف ما يشهد أنه عمل خبيرا ومستشارا لدى عدد من المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض “الربوية”، ومنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تعتبر معاقل المعاملات المالية ذات الفوائد الربوية الكبرى والمتوحشة، التي قصمت ظهور الشعوب وخربت أوطانا، وهو يحتج اليوم على أدنى الفوائد وأقلها إلى حد الانعدام، بحجة أن كثير الربا وقليله سواء في التحريم والتجريم، ولم يتحرج مع ذلك من أن تكون خدماته مؤدى عنها من أموال دافعي الفوائد. لقد فات السيد بوليف أن المبادرة التيسيرية والإصلاحية التي يحرض ضدها، لم تجترح الفوائد البنكية ولا شرعنتها، بل خففت منها وخفضت وأنزلت، فكانت أقرب إلى التدرج في التقليل من المفاسد والمضار منها إلى إحداث الضرر وتوسيعه، فما الذي عمله هو وقبيله في سن هذه السنة الحسنة، وفي الانخراط في مشروع بديل ومطور يستجيب لمصالح المواطنين ومتطلبات التنمية والاستثمار والتشغيل والإنتاج، ولا يعطل اقتصادا ولا منفعة عمومية، ولا يصادم شريعة؟ لقد تناسى السيد بوليف وهو يدغدغ العواطف العامة بفتوى خارج سياقها، أن صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشريك في تمويل البرنامج المندمج لدعم المقاولات، قد ساهم بغلاف مالي قدره 2 مليار درهم بصفر فائدة، أي بدون فائدة تذكر، أو “ربا” قليل أو كثير، مما مكن من خفض نسبة الفائدة لدى المؤسسات المصرفية التقليدية إلى حدودها الدنيا، ومع ذلك يصر السيد بوليف على تذكير الجميع بأن نار جهنم هي مصيرهم في هذه المعاملات المالية، في خلط فظيع، ونكران وجحود للعمل الصالح الذي ينبغي من أهل الصلاح والتقوى والفتوى دعمه والدفع به عند الموازنة بين المصلحة والمفسدة، أو المفسدتان بدفع أشدهما ضررا. إذ إن صاحب الرأي الحكيم والمفتي الحليم ليس هو من يعرف الحرام والحلال والشر والخير مطلقا فحسب، بل من يعرف ما يقدمه وما يؤخره في الموازنة بين المصلحتين والمفسدتين، ومن يعرف أيضا خير الخيرين وشر الشرين دون تعطيل مصلحة أو خير وتضييعهما أو تفويتهما، ودون أن يستسلم لضرر كبير إذا قدر على دفعه بضرر أخف منه وأهون، ومع كل ذلك فإن كلامنا مع الرجل ليس عن الشرع والشريعة والفقه والفتوى وأحكامها التي لها أهلها من المختصين، وإنما عن تصدره للفتوى في ما يعلم أنه لا يكفي فيه مجرد الاستشهاد بآية كريمة، يعرفها العام والخاص، ثم الهروب إلى الأمام، وترك الناس في غموض والتباس وخلط وحيرة من أمرهم وحرج في دينهم ودنياهم، وضرب توافقاتهم ومؤسساتهم الساهرة على مصالحهم. أين كانت هذه الآية الكريمة التي لم يستحضرها السيد بوليف في منصبه البرلماني والحكومي ومناصبه المالية “الربوية”، وعند أخذه أجر عمله، وأين كانت الوصية بالإقراض “في سبيل الله” و”الصدقة لوجه الله” و”الأبناك التشاركية” بدون فائدة، عندما كان المقاولون الشباب والطاقات المعطلة وذوو الحاجات المحكوم عليهم بالغرامات والعقوبات من المعسرين والمفلسين، يطرقون الأبواب لإنقاذ مقاولاتهم ورقابهم من الجزاءات العقابية والخسارات، لم يقرضهم أو يتصدق عليهم السيد بوليف ولا من في حكمه من الوزراء والمتصدرين للخطابة والفتوى، ولم ينخرطوا في أي مشروع تمويلي “حلال” و”لوجه الله”، يكفي المتضررين دفع الفوائد والديون أو الاستعانة بتمويلات البنوك. لم نكن نريد أن نمضي في هذا البوليميك ولا أن نحاسب السيد بوليف على أمواله التي جمعها والتي استثمر قسطا منها في اقتناء “فيلاّ” بالهرهورة، كان غنيا عنها، وكان مبلغها يكفي لإعانة مقاولين شباب به أو لإقراضهم بدون فائدة، كتدخل عملي منه في تشجيع أعمال البر والخير والإحسان والقرض بدون فائدة، تجفيفا تدريجيا لمنابع “الربا” والمعاملات الربوية، أما وهو ونظراؤه ممن يصفقون للفتاوى النظرية في الربا ويأكلون بشكل مباشر أو غير مباشر من صحنها، قد اكتفى واكتفوا بالخطابة بدون عمل تحتها، فإنه لا مصداقية لدعواهم. إذ المطلوب حل مشاكل الناس لا مراكمتها والدوران حولها، وتحريك عجلة التنمية لا تجميدها، وجلب المصالح لا تعطيلها، وهو ما تصدت له بجرأة وشجاعة واقتدار مبادرة دعم تمويل مشاريع الشباب، مهما استطالت الألسنة المتدلية على الصدور، وخرج النائمون والناقمون من مراقدهم، ورغم ما يدسه الداسون من سموم وأحقاد وتحريضات على العاملين والمجتهدين والمصلحين. لقد ذهب التعديل الحكومي الأخير بالسيد بوليف وغادر مناصبه الحكومية والتدبيرية بعد أن لم تعصف به المحاسبة على مسؤولياته في تعثر مشاريع وتعطلها، ووقوع كوارث في الطرقات والقناطر ومجال النقل، ونجا من الإعفاءات على خلفية تأخر مشروع الحسيمة منارة المتوسط، وتفرغ كلية للتشويش على مسيرة تنموية واعدة بما تبقى له من قفشات وغمزات، وبمزايدات فجة اتخذ دين الناس مطية لها، ولبس لها مسوح الرهبان وأهل الإيمان، رغبة في طي حصيلته كما يطوى السجل. كنا ننتظر من الرجل أن يتكلم على الأقل في الاقتصاد والمال اللذين نحسب أنهما اختصاصه وإتقانه، وأن يساعد رجال الفقه والفتوى على فهم التركيبات والمعادلات المالية المعقدة في المعاملات المالية والتجارية للعصر، وأن يعينهم على التنزيل السليم للأحكام الشرعية على الحالات والصيغ الكثيرة من هذه المعاملات، فإذا به لا يتجاوز في معرفته التي عبر عنها في مدونته مستوى الاستشهاد بآية قرآنية يحفظها العامة والخاصة، ويحيل الشباب المقاول على الأبناك التشاركية، دون أن يبين عن علمه وكفاءته في حل معضلات التمويل والاستثمار وتداول الأموال، فما الذي يميزه كباحث في الاقتصاد وخبير في الأبناك ومسؤول حكومي وتشريعي، عن غيره ممن يكتفي بترديد آية الربا وإلقائها في وجوه الشباب لتحذيرهم من نار جهنم، وتوزيع صكوك الغفران على أهل الإيمان. ختاما، نقول للسيد بوليف، إذا كنت تستبيح لنفسك أموالا كثيرة من التقاعد الحكومي ومن معاشات البرلمان ومن أموال الاستشارة والخبرة للأبناك الدولية الربوية، فلماذا تُحرم القليل منها، الذي يمكن للشباب والمقاولات والعاملين عليها، أن يستفيدوا منها كضرر صغير يجلب منفعة معتبرة، في مقابلة ضرر كبير تمثل، قبل المبادرة التي جاءت لإزالته، في الفوائد المرتفعة والعطالة العظمى والجمود التام. وإذا كان السيد بوليف قد غمز ووعظ من طرف خفي بأن نار جهنم هي مصير المتعاملين بالربا، فإننا نذكره بأن المنافقين هم في الدرك الأسفل من هذه النار.