مرة أخرى ، وبمبادرة من عاهلها ، جلالة الملك محمد السادس ،تعطي المملكة المغربية إشارات مضيئة ، وتؤكد على مواقفها المبدئية الراسخة المبنية على قيم السلام والأمن والتعايش والتسامح ، القيم التي تجسد أرقى ما أنتجته الحضارة الإنسانية . الأمر، بطبيعة الحال، يتعلق بمبادرة جلالة الملك بتوشيح ثلاثة من ممثلي الديانات السماوية ( الاسلام ، اليهودية والمسيحية ) وهم على التوالي خليل مرون إمام مسجد ايفري وميشيل سرفاتي حاخام ريس – اورانجيس وميشيل دوبوست اسقف ايفري . وذلك بالعاصمة الفرنسية باريس ،حيث تولت صاحبة السمو الملكي الأميرة للامريم تسليم الأوسمة الملكية للمنعم عليهم، بحضور رئيس الوزراء الفرنسي السيد مانويل فالس . وكما أبرزت وسائل الإعلام ذلك ، فإن هذا التكريم\ التوشيح أكبر من إن يكون مجرد توسيم شخصي، اعتبارا لمغازيه ودلالاته العميقة ،وأيضا بالنظر إلى التطورات والأحداث التي حدثت وتحدث في الظرفية الراهنة ،وفي مناطق عدة من المعمور . فالمبادرة الملكية جاءت مباشرة عقب الحدث الإرهابي الذي هز العاصمة الفرنسية وخلف ردود فعل وإدانات واسعة على النطاق العالمي . فكان التوشيح الملكي لرجال الدين الثلاثة بمثابة تعبير حضاري صريح عن الرفض المطلق لكل أشكال الإرهاب ودعوات زرع فتن الحروب والصراعات والتطاحن بين الأديان . وفي سياق نفسه، اعتداءات أيادي الإرهاب التي امتدت إلى عاصمة الأنوار ، وفي كل من ليبيا ،سوريا ،العراق ، اليمن ومصر، تتواصل الهجمات وعمليات الذبح الهمجية التي ترتكب باسم الإسلام ، والإسلام منها براء ، ومن دون أدنى مراعاة للخراب والدمار التي تتعرض له هذه البلدان وما يرتكب في حق شعوبها من أذى وتطاول على حقوقها وحرياتها . ومن جهتها، لم تسلم القارة السمراء من هذه الفظاعات وهذه الجرائم البشعة التي يبدو أن أصحابها (من عصابة – بوكو حرام – وغيرها ) صاروا يستغلون بعض مواقف التردد والانتظارية لارتكاب المزيد من الجرائم ولكسب ( مواقع ) على الأرض . في هذه الظرفية وفي سياقها ، كانت المبادرة الملكية، إزاء ممثلي الديانات السماوية الثلاثة، بمثابة تجسيد بليغ لموقف سياسي شجاع في مواجهة الظاهرة الإرهابية ودعما مباشرا لكل الجهود الرامية إلى الحد منها ولجم مخططاتها . ومن ثمة كان من الطبيعي أن تحظى بتقدير وتنويه الجميع ،مثل ما صرح بذلك رئيس الوزراء الفرنسي الذي أكد بأن حضوره لحفل التوشيح يشكل فخرا له وبأن ( الرد الحقيقي على التعصب والجهل هو الثقافة والتسامح) ومثل ما صرح رئيس معهد العالم العربي بباريس ، السيد جاك لانغ، الذي أوضح بأن ( مناسبة تسليم هذه الاوسمة يعتبر التفاتة كريمة تجسد تفرد المغرب ، البلد الذي يتميز بتشبثه بقيم التنوع والتسامح والذي يشكل بوتقة تنصهر فيها روافد مختلفة ). وبالإضافة إلى كل تلك الدلالات الضمنية والرمزية ،فالتكريم الملكي لهذه الشخصيات الدينية، في أجواء الاحتقان التي خلقتها الجرائم النكراء بالعاصمة الفرنسية، فيه أيضا رسائل واضحة بخصوص نظرة المغرب للخطر الإرهابي، وما يعبر عنه من : - الوعي بما تنطوي عليه الظاهرة الإرهابية من تناقض وتعارض جوهري مع تعاليم الإسلام السمحة وما جاء به من قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر ، وبالتالي ما تحمله هذه الظاهر من مخاطر وسلوكات ومفاهيم غارقة في الجهل والهمجية والعنف الأعمى . - موقف المغرب الواضح والثابت في مواجهة هذه الظاهرة وعزمه الأكيد على التصدي للإرهاب وأنشطته ومخططاته العلنية منها وتلك التي تنسج في الظلام . - اجتهاد المغرب في مجال تدبير الحقل الديني، وفقا لتعاليم إسلام الوسطية ،وبروز النموذج المغربي الخاص والمتميز على صعيد المنطقة. - وفاء المغرب للالتزاماته في إطار التعاون الدولي والجهوي من أجل حفظ السلم والاستقرار وأمن الشعوب وسيادة الدول. هكذا، وبمثل هذه المبادرات وبهذه المواقف الواضحة يبرز المغرب كقطب جهوي فاعل، وكدولة تقوم بدورها وتتحمل مسؤوليتها ،على أكمل وجه ، سواء تجاه هذه المخاطر وقلاقلها وما تستدعيه من تعاون وتنسيق أمني لمحاربة الجريمة المنظمة ، أو على مستوى المجهودات التنموية ومعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والتجارية، أو على واجهة التبادل الثقافي وإرساء أسس بناء شراكات إيجابية على قاعدة المصالح المشتركة وخدمة تطلعات الشعوب للعيش الكريم في ظل الأمن والاستقرار.