عادت النقابات من جديد إلى تصعيد لهجتها تجاه الحكومة مع بداية العام الجديد، ولا شك أن هذه العودة لها ما يبررها أمام سياسة اللامبالاة وعدم الاهتمام الجدي بمعالجة كل الملفات المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية والمادية والمهنية للطبقة العاملة والموظفين، وكذلك القوانين المتعلقة بتنظيم الإضراب والعمل النقابي، ناهيك عن القوانين المتعلقة بإصلاح صناديق التقاعد وقانون الشغل ونظام الوظيفة العمومية، وغيرها من الملفات ذات الطابع الاستراتيجي والاستعجالي، والتي بدونها لا يمكن الحديث عن إمكانية تحقيق سلم اجتماعي حقيقي داخل البلاد. فبعد هدوء نسبي خلال الشهر الأخير من السنة الماضية، ظهرت عدة مؤشرات تنذر بعدم التوصل إلى تفاهم حقيقي بين النقابات والحكومة ما دامت هذه الأخيرة اختارت مقاربة بعيدة عن المنهجية الديمقراطية التشاركية والتشاورية، وفضلت تجاهل المطالب النقالبية والعمالية، وحصر الحوار الاجتماعي في نطاقات ضيقة، لا تخدم أبدا الأهداف المنشودة من بناء حوار مؤسساتي يقوم على تعاقد سياسي واجتماعي من شأنه تنظيم عملية التفاوض، وزرع الثقة بين الأطراف المعنية، وتجاوز منطق الحسابات الحزبية والفئوية الضيقة، والمزايدات السياسية. إن تهديد النقابات اليوم بتصعيد جديد ضد الحكومة، وتنفيذ ما اتفق عليه من قرارات تم اتخاذها سابقا بشأن تنظيم إضرابات ومسيرات احتجاجية لمواجهة التجاهل الحكومي المفضوح، له ما يبرره مادام أن الحكومة مازالت مصرة على ركوب مطية التعنت وعدم الاستجابة لمطالب النقابات، والإمعان في فرض مقاربة انفرادية تحكمية، تقوم على منطق الإملاء لا منطق الحوار الديمقراطي التوافقي. إن الحكومة لم تأخذ العبرة حتى الآن من المراحل السابقة، ولم تستوعب الرسائل التي وجهتها إليها النقابات بمختلف مشاربها وتوجهاتها واصطفافاتها، عبر سائر من الإضرابات والوقفات الاحتجاجية، بسائر تراب المملكة انتهت بتنظيم إضراب وطني إنذاري، للمركزيات الثلاث الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، والذي انضمت إليه مركزيات أخرى فيما بعد وشمل القطاعين العام والخاص، ليكون بذلك علامة واضحة وفارقة تؤكد أن النقابات جادة في ممارسة حقها الدستوري في الإضراب وفي تعبئة الشغيلة المغربية والاتجاه نحو التصعيد، من أجل الضغط أكثر على الحكومة التي قررت منذ بداية تشكيلها المواجهة مع النقابات، من خلال سياساتها وقراراتها اللاشعبية والاجتماعية، مهما كان حجم التكاليف والأضرار والخسائر ولو على حساب استقرار البلاد. فالذي يبدو واضحا الآن بعد اختيار الحكومة سياسة الصمت تجاه النقابات، هو أن الأمور تتجه أكثر نحو مزيد من التصعيد والمواجهة والاحتقان، وهو ما لن يخدم في شيء بلادنا التي تواجه عدة مخاطر وتحديات وإكراهات ورهانات، منها قضية الصحراء وما يمارس من ضغط سياسي ودبلوماسي كبير داخل المحافل الدولية، وتشويش وتحرش إعلامي ومخابراتي ضد وحدتنا الترابية، وكذا الحرب ضد الإرهاب الذي أضحى اليوم أكثر قربا من محيطنا الجيوستراتيجي ويمثل خطرا على استقرار وأمن المغرب، ومكافحة الهجرة السرية وما تحمله من أعباء سياسية ومادية واقتصادية واجتماعية على بلادنا، والشراكة مع الاتحاد الأروبي وغيره من الدول والتكتلات في ظل منافسة شرسة، ناهيك عن الإشكاليات الاقتصادية الكبرى كضعف الاستثمار والمديونية والعجز المالي وضعف تنافسية الاقتصاد الوطني، ومعضلة الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية والمجالية والجهوية، الخ.. فالوضع العام الذي تعيشه البلاد برغم انخفاض أسعار النفط، والذي لم ينعكس بالصورة التي كنا نتمناها على مستوى تحقيق نمو اقتصاد معقول وتصحيح الاختلالات المالية الناتجة عن القرارات الحكومية الانفرادية والتحكمية، مازال وضعا مترديا، وإن كانت الحكومة تحاول من خلال خرجات رئيسها وبعض وزرائها تلميع الواقع والدفاع عن إنجازاتها "العظيمة". إن عودة النقابات من جديد إلى رفع سلاح التصعيد في وجه الحكومة، ما هو إلا مؤشر على ضعف ومحدودية كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لخطب ود النقابات و للحد من الإضرابات، ولعل تطبيق قرار الاقتطاعات من أجور الموظفين المضربين، كان القشة التي قصمت ظهر البعير وقطعت بالتالي شعرة معاوية بين الطرفين.. إن تجميد الحوار الاجتماعي، وعدم التجاوب مع الملفات المطلبية للطبقة العاملة، بالإضافة إلى عدم تنفيذ بعض بنود الاتفاق الذي أبرمته النقابات مع الحكومة السابقة، خصوصا إلغاء بند في القانون الجنائي تقول النقابات إنه يستغل للتضييق على ممارسة العمل النقابي، إضافة إلى مطالبتها الحكومة بالمصادقة على اتفاقية دولية تتعلق بحماية العمل النقابي، كل ذلك وغيره حري بأن يدفع الأمور نحو مزيد من التصعيد وتعقيد مسطرة الحوار الاجتماعي، مما قد يؤدي إلى صعوبة التوصل إلى تفاهمات حقيقية، ويفضي إلى اللجوء إلى التحكيم، وهو ما ستتحمل الحكومة مسؤوليته بشكل كامل بما أنها تمتلك كافة الصلاحيات لإنجاح الحوار أو إفشاله. لقد قررت النقابات دق ناقوس الخطر من جديد حول تدهور الوضع الاجتماعي للطبقة العاملة والموظفين. فهل ستأخذ الحكومة تهديد النقابات بالتصعيد على محمل الجد، أم أنها ستصر مرة أخرى على إغلاق باب الحوار، واستغلال عامل الوقت، لفرض مقاربة الانفرادية التحكمية، ولو على حساب استقرار البلاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟.