ما كان منتظرا منذ نصبت حكومة السيد بنكيران،هو أن تعمل هذه الأخيرة على تنزيل مقتضيات دستور 2011، فيما يخص الارتقاء بالخطاب السياسي والنأي به عن المزايدات السياسية ولغة الاستفزاز والتعامل مع القوى السياسية الوطنية انطلاقا من المبادئ والأخلاقيات التي تؤطر العمل السياسي كما هو معمول به في الدول الديمقراطية، لكن ما شاهدناه وتتبعناه في الجلسة العمومية الأخيرة بمجلس المستشارين، يقدم مؤشرات خطيرة على أن البرلمان لم يعد ذلك الفضاء المثالي للحوار المسؤول والهادئ في إطار من الاحترام بين الحكومة والمعارضة، والذي يكرس القيم الديمقراطية، ويعزز احترام حق الآخر في التعبير عن رأيه ومواقفه وطرح ملاحظاته واقتراحاته مهما كان نوعها، وبالتالي تبادل الأفكار والتصورات في إطار من التعايش الخلاق بممارسة حوار سياسي يرقى إلى مستوى التحديات والرهانات التي يواجهها المغرب، واعتماد آليات ديمقراطية من شأنها حماية الخطاب والممارسة السياسية ببلادنا من الانزلاق نحو مواقف غير محسوبة ومضرة بتجربتنا الديمقراطية والبرلمانية،وعدم التردي نحو لغة شعبوية سوقية تكرس الشعور بالاشمئزاز لدى المواطن عندما يتتبع ما يجري داخل قبة البرلمان، خصوصا من قبل بعض وزراء حزب "المصباح" وهم لا يترددون في ركوب مطية التعنت والاستهتار والاستخفاف بحرمة المؤسسة التشريعية وممارسة نوع من "العربدة" في مواجهة المعارضة والإصرار على فرض الرأي الواحد ورفض حق الاختلاف، كما فعل وزير العدل والحريات. لقد أظهرت جلسة الثلاثاء الماضي بمجلس المستشارين، كيف أن وزير العدل والحريات، الذي طالما تغنى بالخطاب الحقوقي، وملأ الدنيا وشغل الناس بدفاعه "المستميت" عن حقوق الإنسان،ليتحول فجأة إلى عدو شرس لحق المعارضة في ممارسة صلاحياتها الدستورية والرقابية، في مساءلته لمعرفة الخطوات التي قامت بها وزارته في مجال محاربة الفساد، بعد أن بدا أنه قد عجز عن تنزيل منظومة إصلاح العدالة، والوفاء بما تعهد به منذ توليه حقيبة العدل، بشأن وضع حد لمظاهر الفساد الصغيرة والكبيرة التي مازالت تنخر إدارتنا المغربية ومؤسساتنا العمومية، التي مازالت تشكل عائقا أمام تنزيل آليات الحكامة الجيدة والشفافية المطلوبة في تدبير المرفق العام. فبدل أن يستمع الوزير المعلوم بإمعان إلى ملاحظات المعارضة ويأخذها بعين الاعتبار، ويقدم أجوبة مسؤولة ومقنعة، عمد إلى استفزازها بشكل رخيص والتحرش بها دون مبرر، والسقوط في حضيض لغة لا تستقيم أبدا مع الخطاب السياسي المسؤول، ولا تنسجم مع موقعه كوزير عن قطاع استراتيجي يشكل محورا أساسيا في عملية الإصلاح الشمولي الذي تعرفه مؤسسات الدولة وقطاعاتها، وهو ما يكشف مدى عدم قدرة الحكومة في التعامل بمسؤولية مع انتقادات المعارضة، وتسجيل ملاحظاتها التي لا تأتي أبدا من الفراغ بناء على معطيات ووقائع تؤكد أن القضاء، مازال يعاني من مشاكل عدة واختلالات في تدبير المؤسسة القضائية، وغياب مراجعة السياسة المتبعة الحالية في دراسة الملفات المعروضة على المحاكم، بما يضمن قدرا أكبر من الشفافية والحكامة الجيدة والنزاهة، التي قد تمكن من تكريس العمل بروح العدالة والإنصاف وتعيد الثقة للمواطن وتشعره بالطمأنينة والأمان. إن اللجوء إلى لغة "الحمامات" من قبل وزير العدل والحريات، ما هو إلا دليل على إفلاس الحكومة وفشلها الذريع في أن تكون حكومة مسؤولة وحريصة على تنزيل مقتضيات الإصلاح المطلوب والضرب على يد المفسدين، ودليل على التهرب من تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية وعدم التحلي بالشجاعة والأريحية المطلوبة، بدل بحثه المستميت عن ذرائع مجانية ومبررات واهية لن تنجح في التغطية عن بعض مظاهر سوء التدبير والتسيير الذي مازال يعاني منها قطاع العدالة والقضاء، والتي لن تزيد الأوضاع إلا تدهورا وفسادا، وتتراجع بقطار إصلاح العدالة إلى الوراء.