تحولت جلسة المساءلة الشهرية بمجلس النواب التي عقدت أول أمس، والتي عادة ما تخصص لمساءلة رئيس الحكومة من قبل الفرق النيابية حول عدد من القضايا والملفات التي تهم قطاعات اقتصادية واجتماعية وغيرها، طبقا للقواعد الديمقراطية التي نصت عليها المقتضيات الدستورية الجديدة، وتبعا للنظام الداخلي لمجلس النواب، إلى محطة جديدة من المواجهة مع المعارضة وافتعال الأزمة معها. فككل مرة، يخلق موضوع المساءلة الشهرية لرئيس الحكومة جدلا واسعا داخل قبة البرلمان، بين رئيس الحكومة والفرق النيابية خاصة المعارضة. فالجدل ظل أساسا قائما حول الطريقة المناسبة والواجب اتباعها لتدبير المساءلة الشهرية، وتطور الخلاف ليستقرعلى إشكالية اختيار الموضوع ثم على شكل المساءلة ذاتها والمدة الزمنية المخصصة لرئيس الحكومة والفرق النيابية. فكما كان متوقعا، أصر رئيس الحكومة من جديد على الخوض في الماء العكر والانحراف بمسار المساءلة عن أهدافها وغاياتها في تنوير الرأي العام حول قضايا تدبير القطاعات العمومية، وأظهر امتعاضا واضحاخلال تعقيباته، من طريقة تنظيم تداول الأسئلة والأجوبة والتعقيبات المتعلقة بالمساءلة الشهرية، وكذا نظام توزيع الوقت، الذي تم الاتفاق حوله، بين رئاسة مجلس النواب ورؤساء الفرق النيابية والحكومة، لتفادي أي تصادم أو نقاش أو جدل قد يخل بما هو مقرر في اللوائح التنظيمية للمجلس. لقد عاد رئيس الحكومة ليعاكس مرة أخرى التيار ويمعن في إثارة واستفزاز ممثلي الأمة، بالتطاول وتمرير الرسائل الملغومة نحو المعارضة، ويعمد إلى خرق ما هو متفق عليه حول طريقة تنظيم الأسئلة المحورية بالطعن والتشكيك، ويتعامل بنوع من التعالي مع المؤسسة التشريعية، في سلوكيات اعتقدنا أنها ولت إلى غير رجعة، لكن تعقيبات بنكيران وطريقة تعامله مع أسئلة المعارضة كشفت أن لاشيء تغير، وهو ما لا يليق برئيس حكومة من المفترض أن يكون تعامله متوازنا مع كل الفرقاء ومؤطرا بالأخلاق السياسية العالية والمبادئ الديمقراطية السامية، لكنه اختار للأسف منطق التحرش والتمرد على ما هو متفق عليه، وصال وجال بخطاباته المستفزة واللامسؤولة، غير عابئ بأسئلة المعارضة ولا تعقيباتها، ما دام أن كل ردوده كانت مكتوبة ومفصلة على المقاس الذي يحبه ويرتضيه، ضدا على الحقيقة والواقع، وهو ما أفقد تلك الردود المصداقية والاحترام ليس فقط لدى المعارضة بل عند جميع المغاربة قاطبة. والغريب أن رئيس حكومة يتغاضى عن أبجديات الثقافة الديمقراطية ويلتمس طريق الغمز والهمز واللمز مرة، والصراخ والزعيق والعويل مرة ثانية ، والاستفزاز والاستهتار واللامبالاة مرة ثالثة، ضاربا عرض الحائط بكل ما أجمع عليه المغاربة من مقتضيات وثوابت وأخلاقيات وقواعد لتنظيم وتسيير شؤون حياتهم العامة والخاصة، في إطار دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات والحريات. رئيس حكومة مازال مصراعلى التحكم والاستفراد باتخاذ القرار، ولا يتردد في مصادرة حق ممثلي الأمة في مساءلته ومراقبته، وهو شطط واضح في استعمال السلطة من جانبه، وفي مقابل ذلك وبدون استحياء ينزعج من ممارسة المؤسسة التشريعية لصلاحياتها وحقها الدستوري في تدبير طريقة وتنظيم المساءلة الشهرية والوقت المخصص لكل من المعارضة والحكومة. فكما عاش المغاربة فصلا محزنا من تطاول رئيس الحكومة على البرلمان وعدد من المؤسسات الأخرى، وإصراره على التحكم فيها، عشنا فصلا آخر يوم الثلاثاء معه، من الاستفزاز والاستهتاروالتحرش بالمعارضة، مما يعني أن سياسة التحكم لا زالت قائمة بل وزادت قوة مع الحكومة الحالية، عندما نرى كيف أن بنكيران بمواقفه اللامسؤولة وقراراته الانفرادية يضرب اختياراتنا الديمقراطية في العمق، ويريد أن يعود بنا إلى الوراء. فأين هي هيبة وحرمة المؤسسة التشريعية في وقت لا يزال يتطاول عليها، ويحاول تركيعها بكل الأساليب والطرق الممكنة؟ إنه سلوك وتوجه ممنهج يستهدف تحجيم المؤسسة التشريعية ومعها المعارضة، وتحويلها إلى غرفة استماع وتسجيل ودعاية انتخابية، ولا يحترم فصل السلط، ويتمادى في الإجهاز، على ما تبقى للمؤسسة التشريعية والمعارضة خاصة، من حقوق دستورية مكتسبة، بعد أن أقدم على حرمان المعارضة في مجلس المستشارين من بث انتقاداتها للحكومة خلال المساءلة الشهرية داخل المجلس، وحرمان المغاربة من متابعة أسئلة الإحاطة، مما يعد خرقا سافرا للحق في استعمال وسائل الإعلام والتواصل مع عموم المواطنين.