لم يشهد البرلمان المغربي على مر تاريخه تمردا للمعارضة على الدستور وعلى النظام الداخلي مثل ما وقع يوم الجمعة 31 ماي 2013 عندما قاطعت فرق المعارضة الجلسة المخصصة لمساءلة رئيس الحكومة، فالنقاش والجدل حول هذه الجلسة الدستورية لم يكن بالحدة التي يمكن تصورها قبل عدة أسابيع فقط، وفرق المعارضة قامت فجأة لتنتقد طريقة تدبير الجلسة وطريقة كلام رئيس الحكومة وطريقة تصرف فرق الأغلبية؟؟؟... وقد تفاجأ الرأي العام قبلها بأيام قليلة بفرق المعارضة تدفع بإمكانية مقاطعة هذه الجلسة، وتساءل المواطن العادي: ماذا وقع في هذه الظرفية حتى ثارت ثائرة المعارضة وهبت فرقها بشكل مفاجئ للهجوم على الأغلبية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان في نفس الوقت؟ فمجلس النواب يشتغل بشكل طبيعي منذ انتخابه في تاريخ 25 نونبر 2011، وتمت المصادقة على نظامه الداخلي الجديد بالإجماع أغلبية ومعارضة منذ أزيد من سنة، وجلسة مساءلة رئيس الحكومة تنظم منذ أبريل 2012 ويتم الإعداد لها بالتوافق بين جميع الفرق النيابية أغلبية ومعارضة دون مشاكل سياسية حقيقية، نظرا لتنازل فرق الأغلبية عن جزء من حصتها في جميع هياكل المجلس وفي أنشطته التشريعية والرقابية. فماذا حدث بالضبط حتى يصل الأمر إلى التهجم الوقح على طريقة كلام رئيس الحكومة؟ وما هي الخلفيات الحقيقية لرفض المعارضة عقد هذه الجلسة من أساسها والدفع بمقاطعتها؟ إن تطبيق النص الدستوري أمر يجمع عليه الجميع، والتوافق داخل البرلمان بين الأغلبية والمعارضة كان دائما وسيلة لتنظيم النقاش وتسيير وتدبير المجلس التشريعي، لكن لم يكن من الممكن بأي حال من الأحوال أن يؤدي عدم التوافق على منهجية معينة إلى تعطيل أحكام الدستور القطعية واجبة التطبيق وصريح مقتضيات نظامه الداخلي. طريقة تدبير جلسة رئيس الحكوم ينص الفصل 100 من الدستور على أن البرلمان يعقد جلسة شهرية لمساءلة رئيس الحكومة في مواضيع السياسة العامة، وتعتبر الفقرة الأولى من هذه المادة على أن المساءلة حق لجميع أعضاء البرلمان بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي والسياسي. فمن جهة أولى تعتبر مساءلة الحكومة ورئيسها في النظام السياسي المغربي حقا دستوريا مخولا لجميع النواب البرلمانيين على قدم المساواة وليس للمعارضة وحدها، وهذا هو الخطأ الدستوري الأساسي الذي تسقط فيه المعارضة التي تريد أن تحصر حق مساءلة الحكومة في نوابها أو تعطيهم تمييزا خارج فصول الدستور وبشكل مخالف لصريح أحكامه. أما النظام الداخلي لمجلس النواب، والذي صادقت عليه جميع الفرق بالإجماع أغلبية ومعارضة، فيؤكد هذا المبدأ بشكل أكثر وضوحا، وينص في المادة 157 منه على حق كل نائب برلماني "في توجيه أسئلة إلى رئيس الحكومة حول السياسة العامة..."، ويؤكد في الفقرة الثالثة من نفس المادة على تخصيص نسبة من هذه الأسئلة للمعارضة لا تقل عن نسبة تمثيليتها، وهذا مقتضى واضح يجعل مبدأ التمثيل النسبي أساس توزيع الحصص الزمنية المتعلقة بمساءلة رئيس الحكومة. ومن جهة ثانية يعطي نفس الفصل من الدستور الحق لرئيس الحكومة للإجابة على أسئلة النواب المتعلقة بالسياسة العامة، والإجابة يتعين أن تخصص لها نفس الحصة الزمنية المخصصة للأسئلة، وهو ما يؤكده الفصل الأول من الدستور الذي يؤكد على فصل السلطتين التشريعية والتنفيذية وعلى توازنهما، فمثلما لا يحق للحكومة أن تأخذ حصة أكبر من البرلمان، لا يحق لمجلس النواب أن يُعطى حصة زمنية للأسئلة أكبر من الحصة المخصصة للإجابة. فماذا تريد المعارضة بالضبط من محاولتها توقيف الجلسة الدستورية ومقاطعتها لها؟ هل تريد خرق الدستور ومنحها حقا غير دستوري، أم تريد حذف هذه الجلسات وتوقيفها بشكل نهائي حتى لا تظهر عوراتها خلال أجوبة رئيس الحكومة؟ إن النظام الداخلي للبرلمان، والذي صادق عليه المجلس بالإجماع، واضح في هذا الصدد، فهو يتضمن تفاصيل مبدئية تتعلق بجلسة مساءلة رئيس الحكومة، وفي نفس الوقت يحدد اختصاص هياكله وهيآته فيما يتعلق بتنظيم الجلسة والحصة الزمنية الإجمالية المخصصة لها وتوزيعها على الحكومة والبرمان بأغلبيته ومعارضته. وإذا كان مكتب المجلس هو الهيأة المختصة لتحديد جدول أعمال المجلس وتنظيم أشغاله، فإنه يقوم طبقا للدستور وللنظام الداخلي بتحديد موعد الجلسة الشهرية المخصصة لمساءلة رئيس الحكومة ويحدد مختلف الشكليات المرتبطة بها، ومكتب المجلس في النظام البرلماني المغربي يضم في عضويته جميع الفرق البرلمانية أغلبية ومعارضة بما يجعل تدبيره جماعيا، وتحديد موعد هذه الجلسة الشهرية تم التوافق عليه بين جميع الأعضاء ولم يدع أي منهم إلى توقيفها. ووفقا لمقتضيات المادتين 57 و58 من النظام الداخلي، فإن توزيع الحصص الزمنية داخل جلسة المساءلة بين الفرق يتم من طرف ندوة الرؤساء وباحترام قاعدة التمثيل النسبي المنصوص عليها في الدستور، وعادة ما يتم التوافق داخل ندوة الرؤساء بين الفرق رغم أن النظام الداخلي ينص على آلية التصويت لحسم القضايا الخلافية، وهو ما يعتبر آلية ديمقراطية لا يمكن لأحد أن يلغيها لأية اعتبارات كانت. لذا وبناء على هذه القواعد الدستورية والقانونية، فإن جلسة مساءلة رئيس الحكومة تحولت من جلسة ألزم الدستور بعقدها شهريا، إلى مجال للمزايدة السياسية الرخيصة وأداة للابتزاز في محاولة لتغيير شكلها الدستوري أو حتى توقيفها نهائيا وإلغائها. ويعتبر انسحاب فرق المعارضة من الجلسة الأخيرة قمَّة الابتزاز السياسي بالنظر للمطالب المخالفة للدستور التي تم تقديمها، وبالنظر للتضارب بين فرق المعارضة نفسها في تفسير أسباب المقاطعة. وإذا كان الاتحاد الاشتراكي يطالب بتغيير الحصص الزمنية، فإن فريق الأصالة والمعاصرة لا يرى إشكالا في الزمن بقدر ما يتحفظ على كلام رئيس الحكومة وعلى مخاطبته للمواطنين داخل الجلسة وعلى تعليقاته وأجوبته القاسية على كلام قياديي هذا الحزب خاصة داخل مجلس المستشارين. عرقلة المعارضة لعقد الجلسة الدستورية من غرائب البرلمان المغربي أن المعارضة أصبحت تخاف من مواجهة ومساءلة رئيس الحكومة عوض أن يتخوف هو من أسئلة البرلمانيين كما يحدث في جميع البرلمانات الديمقراطية، وعوض أن نجد رئيس الحكومة يتهرب من تنظيم الجلسة الشهرية لمناقشة السياسة العامة، أصبحنا نواجه إصرارا من فرق المعارضة على تأجيل الجلسة الشهرية أكثر من مرة، قبل أن تقوم بالتغيب عنها في آخر المطاف. وإذا كان المتتبعون قد فهموا منذ الوهلة الأولى أن المعارضة أصبحت ترفض عقد هذه الجلسة، فإن فهم الخلفيات والأسباب قد تنوعت في مختلف القراءات السياسية والقانونية لهذا الرفض. فهناك من أرجع الرفض لخوف المعارضة من مواجهة رئيس الحكومة بسبب الكوارث التدبيرية التي تسببت فيها عبر الحكومات السابقة التي كانت ترأسها أو تشارك فيها. وهناك من فسر التهرب من عقد الجلسة بتخوف المعارضة من تنامي شعبية رئيس الحكومة الذي يخاطب الشعب المغربي والرأي العام بشكل مباشر عبر البرلمان. لكن غالبية القراءات السياسية بقيت حبيسة قراءات سياسية محضة، ولم تنتبه أن ردود فعل المعارضة ومقاطعتها للجلسة الدستورية يعتبر إجراء سياسيا خطيرا اتخذته ضد المؤسسة التشريعية بكاملها وليس ضد الأغلبية أو رئاسة الحكومة. فلا أحد انتبه إلى أن المعارضة حصلت بالفعل على كامل حقوقها الدستورية، ومكنتها الأغلبية بالإضافة إلى ذلك من امتيازات أخرى لم تكن تخطر لها على بال، وتساوَت بالتالي وضعية المعارضة وحصصها في هياكل وأشغال المجلس مع المعارضة، وهذا غير منطقي من الناحية الدستورية، إلا أن منهجية التوافق التي حاولت الأغلبية البرلمانية ترسيخها كانت السبب في أريحية التعامل مع المعرضة داخل مجلس النواب. فإعداد النظام الداخلي والمصادقة عليه، وتشكيل هياكل المجلس وطرق اشتغاله وحصص المداخلات والحصص الزمنية على مستوى التشريع والرقابة البرلمانية كان يمر دوما بالتوافق ودون أن تلجأ فرق الأغلبية للتصويت العددي رغم أن الدستور والنظام الداخلي يجعلان منطق الديمقراطية هو الأصل، سواء على مستوى مكتب المجلس أو ندوة الرؤساء. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن المعارضة البرلمانية تمثل أقل من 40% من عدد الأعضاء، فإنها تساوت في رئاسة اللجان الدائمة مع الأغلبية، وسمحت لها الأغلبية بترؤس أربع لجان رغم أن الدستور المغربي يعطيها الحق في لجنة أو لجنتين. وتساوَت أيضا مع الأغلبية في الحصص الزمنية المتعلقة بمساءلة رئيس الحكومة، وهو الموضوع الأساسي الآن في موقفها الغريب، رغم أن الدستور والنظام الداخلي ينصان صراحة على قاعدة النسبية وعلى حصص زمنية تتناسب مع تمثيليتها بالبرلمان، ويؤكد النظام الداخلي هذا المبدأ كما سبق ذكره أعلاه. فخلال الترتيبات التي كانت تسبق الإعداد لجلسات المساءلة الشهرية منذ انطلاقها السنة الماضية، كان الأصل في التدبير حسب الدستور وحسب النظام الداخلي أن تعطى حصة زمنية لجواب رئيس الحكومة بشكل مساوي للحصة الزمنية المخصصة للمساءلة، وهو مبدأ دستوري كما بينا سابقا. لكن الأغلبية آنذاك كانت تتنازل عن جزء من حصتها لفائدة المعارضة لتصبح حصتها الزمنية مساوية لحصة الأغلبية، ورغم أن التمثيل النسبي يعتبر قاعدة دستورية، إلا أن حرص فرق الأغلبية على استمرار التوافق وعلى تقوية موقع المعارضة كان يدفعها للتعامل بتسامح أكبر في هذا الصدد. ولما احتجت فرق المعارضة بعدها على ضعف الغلاف الزمني المخصص لمجلس النواب (وليس للمعارضة) تنازلت رئاسة الحكومة عن جزء من حصتها وقبلت بثلث الحصة الزمنية من الجلسة عوض نصف الحصة الإجمالية كما هو مفروض بنصوص الدستور. إلا أن الخرجات الأخيرة لفرق المعارضة بالتزامن مع النقاش السياسي حول مراجعة النظام الداخلي جعل من مطالب المعارضة ابتزازا واضحا ومستهجنا، على اعتبار أن مطالبها أصبحت تتجاوز تسامح فرق الأغلبية ورئاسة الحكومة لتصبح محاولة لفرض خرق الدستور بشكل فاضح. وإذا كانت أحكام الدستور ومقتضيات النظام الداخلي واضحة فيما يتعلق بالتمثيل النسبي فيما يخص توزيع الغلاف الزمني على مستوى وظائف البرلمان التشريعية والرقابية، وعلى مستوى توازن السلط وحق الجواب لدى رئاسة الحكومة في نفس الحيز الزمني المخصص للمساءلة، فإن الوصول إلى مرحلة التصادم الكامل عبر مقاطعة جلسة دستورية في محاولة لعرقلتها وتوقيفها يعتبر سابقة خطيرة في العمل البرلماني بالمغرب ويضرب منطق التوافق من أساسه، ويحاول فرض سياسة لي الذراع وفرض أمر واقع غير دستوري. وهذا المستجد في العمل البرلماني داخل المجلس لا يمكن أن يمر بشكل طبيعي، فالواجب أن يكون له ما بعده، خاصة على مستوى النقاش السياسي المتعلق بمراجعة النظام الداخلي، وعلى مستوى تدبير شؤون المجلس وممارسته لمهامه التشريعية والرقابية. وقاحة المعارضة وتمردها على المؤسسات الدستورية إن مقاطعة جلسة دستورية لأسباب غير قانونية يعتبر سابقة خطيرة في العمل البرلماني بالمغرب، خاصة وأن الدستور الجديد يؤكد على مبادئ الديمقراطية التي يعرف الجميع قواعدها وتفاصيلها وآليات عملها ونتائجها السياسية والقانونية. ومقاطعة أول رئيس حكومة منتخب بشكل ديمقراطي من قبل المواطنين عبر ممثليه وفق الدستور الجديد يعتبر وقاحة غير مسبوقة، ويؤشر على قلة احترام للمؤسسات الدستورية. كما أن مقاطعة جلسة دستورية تم تنظيمها وفق أحكام الدستور ومقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب يعتبر تمردا واضحا على المؤسسة وعلى الشرعيتين القانونية والسياسية، على اعتبار أن تنظيم الجلسة تم بشكل قانوني من قبل مكتب مجلس النواب، وتوافق جميع أعضائه المنتمين للأغلبية والمعارضة على تنظيمها في الموعد المحدد لها. وعلى الرغم من أن مكتب المجلس قد اتخذ قراره ذاك، فإنه اتفق على تأجيل الجلسة مرتين ليفسح المجال لأقصى حد من النقاش السياسي، وعندما قرر بشكل نهائي تنظيمها يوم الجمعة 31 ماي 2013 وبإجماع أعضائه الحاضرين، استحضر الخلافات السياسية القائمة، واعتبر أنها خاضعة لنقاش سياسي ولا أثر قانوني لها، وقرر بالتالي المضي في تنظيم الجلسة الشهرية في آخر يوم مخصص لها خلال شهر ماي. وإذا كانت الجلسات السابقة منذ أبريل 2012 قد تمت بشكل سلس وطبيعي، فإن إثارة مجموعة من العراقيل لمنع انعقاد الجلسة الأخيرة أثار ارتيابا حول خلفية هذا الخلاف المفتعل وحول حقيقة مواقف المعارضة ومناقضتها للدستور. فالتوافق لا يمكن أن يكون على حساب النص الدستوري أو حول مخالفته الصريحة، وحقوق المعارضة الدستورية لا تسمح لها بأية حال من الأحوال بعرقلة السير الطبيعي للمؤسسات الدستورية ولا بتوقيف تطبيق النص الدستوري، لأنها بذلك تسير عكس الدستور وعكس القانون وعكس الديمقراطية من أساسها. وإذا كانت تنتقد منطق الأغلبية العددية فإن ذلك يعتبر مستهجنا وغريبا، على اعتبار أن الحكومة المنتخبة دورها تدبير الشأن العام تحت رقابة البرلمان بجميع أعضائه وليس فقط المعرضة، ودور المعارضة واضح ومحدد ولا يمكن أن يتجاوزه ليصبح توقيفا لأحكام الدستور، أو تطاولا على المؤسسة الدستورية الممثلة في رئاسة الحكومة، أو تغوّلا على الأغلبية البرلمانية التي تبقى أغلبية منتخبة من قبل المواطنين لأداء دورها الرقابي والتشريعي والدبلوماسي. وإذا كانت المعارضة رافضة للتوافق القائم بخصوص سير مجلس النواب وعلى مستوى ممارسته لمهامه التشريعية والرقابية، فإن الأصل أن نعود للمنطق الديمقراطي وللقواعد الدستورية التي تعطي للمعارضة حقوقها الواضحة والتي حصلت عليه كلها وزيادة، وتعطي للأغلبية أيضا حقوقها الدستورية عبر آلية التمثيل النسبي. دكتور في القانون متخصص في العلوم الإدارية [email protected]