قبل بضعة أيام ظهر رئيس الحكومة – رئيس حزب العدالة والتنمية – وهو يحاول , خلال ندوة بالرباط, رسم خريطة مركبة لطبيعة التناقضات والاختلافات داخل المشهد السياسي في المغرب . ولوحظ ان عبد الاله بنكيران قد اجتهد لكي يجعل صورة هذه الخريطة توحي بعدم وجود خلافات وتناقضات بين الاطراف السياسية المكونة لحكومته . وبعد بضعة ايام , كذلك , لم تتأخر الاحداث في الإتيان بما يدحض ما ذهب اليه رئيس الحكومة , حيث اظهرت بعض الاحداث والوقائع ان الخلافات والتناقضات حاضرة وتعبر عن نفسها , وتكشف عن وقعها , في اكثر من محطة ومناسبة . ولعل مناسبة إعداد ميزانية الدولة , وعرض القانون المالي للسنة المقبلة , هي واحدة من المحطات او المنعطفات التي تتكشف فيها نقاط الخلاف والتعارض في المنطلقات وفي النظرة والتصور السياسي للخطوات المقبلة . فما أن اقترب موعد الحسم في قضية (الدعم المالي المباشر للارامل والفقراء) حتى كشفت التناقضات بين الاطراف الحكومية عن نفسها . فبالرغم مما قيل , اثر ( خلوة افران ) , من ان رئيس الحكومة قبل بالتراجع عن (مشروع الدعم المالي المباشر ) , فإن حزبه وفريقه البرلماني ظل متشبثا بضرورة إقرار هذا ( المشروع ) واخراجه الى الوجود مع القانون المالي المقبل . فبالإضافة الى الضغوط والحملة التي يقوم بها البيجيدي في هذا الاتجاه , فإن فريقه البرلماني , خاصة في الغرفة الاولى , سخر كل ما في وسعه من اجل تمرير المشروع عبر تحويل 4 ملايير درهم من مخصصات صندوق المقاصة نحو صندوق التماسك الاجتماعي لصرفها في اطار ( الدعم المباشر ) . وهو ما ترفضه عدة اصوات حتى داخل صفوف مكونات الحكومة . وذلك من منطلق اعتبارات سياسية وتقنية وقانونية ومالية . ومن داخل هذه الصفوف جاء صوت وزير الاقتصاد والمالية نفسه, الذي كان واضحا في رفضه التام لخطة (الدعم المباشر) , مدعما هذا الرفض بكونه غير قابل للتحقق من خلال الميزانية , وبكونه (وحزبه من دون شك) ضد (الدعم المالي المباشر غير المشروط , لانه سيولد الاتكالية ,وان (( من يطالب بالدعم المباشر يشجع على الريع )) . هذا الكلام الواضح , الذي ادلى به الوزير بوسعيد في حوارات صحفية , يتجاوز الاختلافات الجزئية او المحدودة التي يمكن ان تعتبر عادية في بعض التحالفات . بحيث يعبر صراحة عن حالة من التناقضات والتعارض على طول الخط . وهو ما تدعمه وتؤكده ايضا الحيثيات والاسباب التي جعلت حلفاء بنكيران يرفعون في وجهه هذا الاعتراض . فهذه الحيثيات لا تعود الى تباينات وجهات النظر في ارقام وبنود الميزانية , او حتى في كيفية تدبير المالية العمومية , ولكنها تعود الى حسابات واعتبارات انتخابية وسياسية تهم الاستحقاقات القادمة وتاثيرها على خريطة المشهد السياسي . فاطراف الاغلبية الرافضة لاقرار الدعم المباشر تتهم ضمنيا او صراحة البيجيدي بكونه يسعى الى استثمار حكاية ( الدعم المباشر) لمصلحته الانتخابية وتوظيفه في رهاناته خلال الاستحقاقات الجماعية والتشريعية القادمة . اذ ان الشريحة المعنية بالاستفادة من الدعم المالي المباشر ( زهاء 1000 درهم شهريا ) تتكون اساسا من النساء الارامل , ويتراوح عددهن بين 400 و 450 الفا , اي ما يعادل تقريبا نصف عدد الاصوات التي حصل عليها حزب المصباح في الانتخابات الاخيرة . وربما ان هذا الرهان هو الذي جعل رئيس الحكومة يتراجع عما سبق وان تعهد به , حين اتفق مع المكونات الاخرى للحكومة على الغاء فكرة توزيع الدعم المباشر , ليعود ويتحدث , في اجتماع لفريقه البرلماني , عن قرب صدور المراسيم التطبيقية لتوزيع اموال الدعم المباشر , الذي تصفه جهات غير قليلة , من الاوساط السياسية والاعلامية وغيرها , بانه يعد بمثابة ( رشوة انتخابية مقنعة ) , اي انه مقدمة ووسيلة للفساد الانتخابي . ومعنى ان يتحول المال العمومي الى ( رشوة انتخابية مقنعة ) هو ان توزيع اموال الدعم المالى المباشر, على الشكل الذي يتشبث به البيجيدي , يعد ايضا بمثابة استغلال للموقع الحكومي , وهدرا للمال العام وتوظيفه في الحسابات والغايات الانتخابية . وهو ما يتنافي مع الاستقامة وحسن التدبير , ومع نزاهة ونظافة العمليات الانتخابية . وبالتأكيد، فإن الموطنين ينتظرون ان يتميز تدبير الشأن العام توجها آخر غير هذا . لان مصلحة البلاد وتقدمها تستوجب نبذ عقليات الفساد وسوء التدبير واستغلال وسائل الدولة للبقاء في كراسي التسيير . وان المجتمع , بكل مكوناته وشرائحه في حاجة الى التنمية الشاملة والنهوض باوضاعه الاقتصادية والرفع من مستوى عيشه واحترام كرامته . كما أن مصلحة البلاد وحاجيات الشعب تستوجب من اي حكومة ان تكون حكومة لها سياسة استراتيجية مضبوطة وقادرة على تجسيد سياسة الاوراش الكبرى .. حكومة مبادرة , قادرة على الإنتاج والابتكار , لا حكومة ( الصدقة ) .