إن استعراضا سريعا لتاريخ الصراع العربي الصهيوني منذ بروزه، مع قيام دولة الكيان الإسرائيلي سنة 1948 وإلى الآن. يكشف بجلاء عن اتجاه الأنظمة العربية في علاقاتها مع إسرائيل، في يوم من الأيام، إلى خوض الحرب بالوكالة، عوضا عن الجيش الصهيوني ونيابة عنه، لدحر ومحو الشعب الفلسطيني ومقاومته من الوجود، ودفن حلمه بتأسيس الدولة وتحقيق حق العودة. إن حقائق التاريخ وواقع الجغرافيا تقول ذلك، بل تؤكده بجلاء ووضوح صارخ. فقد مرت علاقات الأنظمة العربية بدولة الكيان الصهيوني بمنحى تنازلي خطير، انطلق في بداية قيام الدولة الغاصبة، بالمواجهة والصدام والتحدي، ليصل إلى الإعتراف والتطبيع والإستسلام والإنبطاح، بل والتماهي مع سياسات العدو الصهيوني الإجرامية، تجاه أبناء الشعب الفلسطيني. مرورا بالممانعة والتفاوض والإنفتاح. فقد شهدت هذه العلاقات على المستوى العسكري والسياسي والإقتصادي، تطورات أدت إلى انحدار، وتقهقر، وتراجع الموقف العربي بشكل دراماتيكي خطير ومخزي، لم يكن حتى أكثر المتشائمين يتوقع حدوثه. ويمكن تقسيم هذا المسار إلى أربعة مراحل مختلفة ومتباينة في المواجهة مع هذا الكيان الغاصب: 1 مرحلة المواجهة والتصدي : وتمتد من ظهور دولة الكيان على أرض فلسطين 1948 وإلى حدود حرب أكتوبر 1973. وتميزت هذه المرحلة على المستوى العسكري، بعدة حروب ومواجهات مسلحة، (حرب 1947 العدوان الثلاثي على مصر 1956 حرب الستة أيام 1967 حرب أكتوبر 1973) انتهت كلها بما فيها حرب أكتوبر التي يعتبرها الحكام العرب نصرا يتغنون به بهزائم نكراء، توجَت بفقدان الكثير من الأراض، على مختلف الجبهات المصرية، الفلسطينية، الأردنية والسورية. وعلى المستوى السياسي تميزت هذه المرحلة بالممانعة، التي اختصرتها قرارات مؤتمر القمة العربية بالخرطوم 1967 بعد النكسة، بِ"اللاءات الثلاثة": لا سلام، لا اعتراف، لاتفاوض مع إسرائيل. وعلى المستوى الإقتصادي تميزت الفترة، بنهج العرب سياسة المقاطعة والحصار الإقتصادي، لأجل الضغط على دولة الصهاينة. 2 مرحلة التفاوض والسلام : وتمتد من حرب أكتوبر 1973 إلى سنة 2001. وتميزت عسكريا بانعدام المواجهات والحروب بين الطرفين، باستثناء حرب لبنان 1982 التي انتهت بطرد المقاومة الفلسطينية إلى تونس، بسبب تقاعس الأنظمة العربية. وسياسيا بالتفاوض وتوقيع هذه الأنظمة لإتفاقات انهزامية مخزية، مع إسرائيل (كامب دايفيد مع مصر في 1978 اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين 1993 معاهدة وادي عربة مع الأردن في 1994..) واقتصاديا تميزت المرحلة، بالإنفتاح وفتح مكاتب الإتصال، وتدشين المبادلات التجارية.. 3 مرحلة الإعتراف والتطبيع الكامل: وتمتد من سنة 2001 (تدمير برجي التجارة العالمية) إلى الحرب على حزب الله ولبنان 2006. وتميزت عسكريا بغياب أي مواجهة مسلحة للجيوش العربية، اللهم من الجرائم وحملات التقتيل التي ارتكبها شارون، وأولمرت في حق الفلسطينيين العزل، في غفلة أو بالأحرى تغافل من الحكام العرب.. وسياسيا بهرولة جميع الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل، وتبادل فتح السفارات، والبعثات الدبلوماسية، واقتصاديا تعاظم المبادلات التجارية بين إسرائيل ومختلف الأنظمة العربية. 4 ومنذ اضطلعت تنظيمات المقاومة بخوض المواجهات المسلحة ضد الكيان الصهيوني بدءا من 2006، دفاعا عن الكرامة والأرض العربية، عوضا عن جيوش الأنظمة العربية المتخاذلة والمُطبعة مع إسرائيل، والمستكينة إلى سلام الجبناء معها، يمكن الحديث عن مرحلة رابعة في مسار الصراع العربي الصهيوني. هي مرحلة سقوط الأقنعة، وكشف المستور. وتميزت عسكريا بانسحاب نهائي للجيوش العربية من أرض المواجهة مع جيش الإحتلال الصهيوني، واستفراد هذا الأخير بالتنكيل بالشعب الفلسطيني، وارتكاب مجازر دورية في حقه، وتوسيع نهبه ومصادرته للأرض الفلسطينية في الضفة. وسياسيا بانبطاح كلي لأنظمة الإستبداد العربي لإرادة الصهاينة، وفتح الحدود العربية على مصراعيها، أمام المد الإقتصادي والتجاري الإسرائيلي المتفاقم. وبالمقابل تميزت المقاومة الشعبية، بتطوير أدائها وقدراتها، وبالتالي توجيهها ضربات موجعة لجيش الإحتلال، في 2006 على يد حزب الله في جنوبلبنان، و في 2008/2009 على يد المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي ) في غزة. وحاليا (يوليوز 2014) بغزة أيضا، حيث تكبد كتائب القسام وسرايا القدس، جيش العدو الصهيوني خسائر فادحة في أفراد جيشه، وتنشر صواريخها الخوف والرعب، والإنكماش الإقتصادي في عموم دولة الإحتلال، وهو أمر غير مسبوق، لم تحققه أي من الجيوش العربية. وهو ما كسر قاعدة أسطورة أمن إسرائيل المطلق. بينما تقوم آلة الحرب الصهيونية، بدك المنازل، والمساجد، والمستشفيات، ومختلف المؤسسات المدنية والإجتماعية، فوق رؤوس المدنيين العزل، خاصة من الأطفال، والنساء، والشيوخ، والعجزة، مرتكبة مجازر وحشية فادحة، أمام صمت وتفرج العالم العربي، والعالم الغربي "المتحضر"، رغبة في كسر شوكة وإرادة المقاومة. إنه إذا كانت للحرب الحالية على غزة من نتيجة على مسار الصراع العربي الصهيوني، فهي أنها أسقطت الكثير من الأقنعة عن الكثير من الوجوه الزائفة، بل أسقطت ورقة التوت عن سوءات الأنظمة العربية وحكامها المستبدين، وكشفت عن حقيقة مواقفها من دعم القضية الفلسطينية، وعرت خذلانها المكشوف للشعب الفلسطيني، بل تواطأها ضد مصلحته الوطنية والقومية، ودعمها الفاضح لآلة الحرب الصهيونية. فقد تراوحت مواقف الخذلان العربية للحكام العرب الطغاة، بين مَن اعتمد حكمة القرود الثلاثة (لا أرى لا أسمع لا أتكلم) تجاه الحرب الهمجية الصهيونية، على المدنيين العزل في غزة، فانزوى في قصره/جحره، يتفرج على أشلاء الأطفال والرضع الأبرياء، والنساء، والشيوخ تسفك بلا رحمة. وبين من أكد أنه "صهيونيا أكثر من الصهاينة"، فمول الحرب على غزة، كما فعل طغاة الإمارات، انتقاما من حماس المتحالفة (في اعتقادهم) مع إخوان مصر. أو مَن شدد الحصار ومنَع وصول الدواء والغذاء والأطباء إلى غزة، وحاول فرض اتفاق استسلام وانهزام على المقاومة الإسلامية، كما فعل فرعون مصر وطاغيتها الجديد السيسي، رغبة منه في القضاء على من يعتبرهم "إرهابيين" حلفاء "لإرهابيي" الإخوان في مصر . أو مَن ظل يشجب، ويندد عبثا وبدون طائل، بينما ظل مبادلاته التجارية، تتدفق بسلاسة وغزارة، تجاه الدولة العبرية الغاصبة. وكان الأوْلى أن يقوم بإجراء عقابي ملموس، كوقف هذه المبادلات، وإغلاق مكاتب الإتصال، والمؤسسات الصهيونية فوق تراب وطنه، عوض التنديد والشجب الأجوف.. إن الحرب الهمجية الحالية على غزة قد أخرست الكثير من الألسنة الطويلة، التي طالما كانت تتشدق بدعم قضايا الأمة، ونصرتها، والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني. وقد تساوت في ذلك كل الحكومات العربية الحداثية منها، والرجعية، والإسلامية على حد سواء، إلا من رحم ربي (حكومة قطر). ففي المغرب تحولت الثرثرة التي أشبعنا بها بنكيران، طوال نصف ولايته الحكومية، إلى ما يشبه الخرس والبكم، بينما كان بإمكانه عوض إرسال وزرائه للوقوف في الصفوف الأولى لتظاهرة الرباط، والتقاط الصور التذكارية، القيام بإجراء ملموس لدعم الشعب الفلسطيني، كوقف المبادلات التجارية مع دولة الإحتلال، التي عرفت في عهده انتعاشا وتزايدا قل نظيره، وذلك أضعف الإيمان. إن هذه الحرب الهمجية المسعورة على غزة، قد بلغت حصيلتها المؤقتة اليوم، 700 شهيدا، منهم أكثر من 150 طفلا، وآلاف الجرحى. وتدمير 50 مسجدا، وأكثر من 1000 منزلا تدميرا كليا، وآلاف المنازل تدميرا جزئيا، ناهيك عن المشافي، والمؤسسات الإجتماعية المختلفة، والمعامل، وورشات الصناعة. ألا يكفي كل هذا السعار الصهيوني، لتحريك حتى أشد القلوب تحجرا، وأكثرها غلظة وجفاء؟ !! ماذا ينتظر حكام العرب أن يروا أكثر مما رأوه؟ !! ألم يُشفي غليلهم كل هذا الشلال من الدم الفلسطيني، الذي سفك وأهدر بحقد وجبروت أمام تفرج العالم؟ !! ألم يشفي غليلهم كل هذا التدمير، الذي طال مقدرات هذا الشعب المنكوب، على قلتها وعلتها، وأجهز على بنياته المدنية، التي دكت دكا وسويت بالأرض؟ !! إنها صورة مخجلة ضاجة بالبشاعة والهوان، هذه التي وصلتها المواقف العربية بشأن ما يحدث من تقتيل ومجازر في غزة، أمام مرأى ومسمع الجميع. إنه إنْ كان هناك من تفسير لهذه المواقف المتخاذلة، فهو صعود هذا المد المعادي لزحف الربيع العربي، المناهض لمطالب الشعوب العربية، في التحرر والإنعتاق من سطوة هذه الأنظمة المستبدة. وكذا الإحراج الذي تسببه المقاومة الإسلامية حماس والجهاد في غزة، لهذه الأنظمة الفاسدة بفضل بسالتها وصمودها الأسطوري، بوسائل وإمكانيات محدودة، أمام قوة عسكرية جبارة، طالما قهرت الجيوش العربية، وألحقت بها أشكال الهزائم، وأذاقتها صنوف الإذلال والويلات، في كل معاركها ومواجهاتها معها. ما جعل هذه التنظيمات الشعبية للمقاومة، تمثل عُقدة وشوكة في حلق حكام هذه الأنظمة العربية الإنهزامية، التي راكمت الهزائم تلو الهزائم أمام الصهاينة، حتى انصاعت لإرادتهم واستسلمت لجبروتهم، بل وأصبحت تتودد جهارا نهارا لرضاهم. ما جعلها تتواطؤ ضد هذه المقاومة الباسلة، وشعبها الصامد، إما بالصمت على هذه الجرائم الصهيونية البشعة، أو بتشديد الحصار عليها بهدف خنقها وهزمها وإذلالها، أو بتمويل هذه الحرب على غزة بهدف إخضاعها، أو بالتشهير بها، ووصفها بالإرهاب والتطرف، بهدف تأليب وتحريض الرأي العام الدولي عليها، وبالتالي الإجهاز عليها. أنه من المحزن المبكي، أن نتتبع كيف تقهقرت وتدهورت المواقف العربية تجاه دولة الإحتلال الصهيوني، منذ قيامها سنة 1948، من دور الممانعة والمواجهة العسكرية، إلى دور الإنفتاح والتفاوض، إلى التطبيع وترسيم العلاقات، وصولا إلى التحالف والتواطؤ. وكيف تطورت وتحسنت صورة دولة الإحتلال عبر هذا المسار، لدى هذه الأنظمة المتسلطة، مِن صورة العدو التاريخي، إلى صورة المفاوض من أجل السلام، إلى صورة الشريك السياسي والإقتصادي، ثم انتهاء بصورة الصديق المتواطَئ معه. وكيف تشوهت صورة التضامن العربي، وتمزقت، وتشرذمت إلى أشلاء وأشلاء، حتى أصبح عقد مؤتمر قمة، على علته وانعدام فائدته، في حد ذاته قضية من الصعوبة بمكان تحقيقها، تتباين حولها المواقف وتختلف، وربما تتنازع وتتخاصم بشأنها الدول، مترجمة حجم الهوان والضعف الذي يعتري هذه الأنظمة وينخرها. وكأني بهذه الأنظمة الفاسدة، قد أصرت على تحقيق عكس "اللاءات الثلاثة"، لقرارات مؤتمر الخرطوم 1967، فأنجزت الصلح مع الكيان الصهيوني، وتفاوضت معه، واعترفت به، وأضافت إلى ذلك شيئا رابعا مخزيا، وهو التواطؤ معه ضد مصالح الشعب الفلسطيني، وحتى تمويل حروبه لكسر مقاومته الباسلة. إن النفق الذي تسير فيه الشعوب العربية، بإرادة من حكامها الطغاة طويل طويل، شديد السواد. لا بارقة للأمل فيه، ولا نهاية بادية في الأفق. وهو سواد، لا ولن تبدده سوى هَبَّة نسمة من نسمات ربيعه اليانع، الفواحة العطرة بعبق الحرية والعدالة والكرامة. إنها المفتاح السحري لجميع هذه المصائب التي تقض مضجع هذه الشعوب، وتكتم على أنفاسها. وكل ربيع والوطن العربي بألف لون وعبق للحرية والإنعتاق. لك الله يا غزة المختار أعويدي الحرب الهمجية على غزة : سقوط الأقنعة.. !