«وأما أمنا فهي رحمة بنت سيدي محمد عم أبي المذكور، وأمها رقية مسعود ابن عجيبة وهي في قيد الحياة متعبدة ناسكة شديدة الخوف من الله… مائت رحمة الله عليها منتصف صفر الخير يوم الخميس، ودفنت يوم الجمعة سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، وقبرها مشهور بقرب زوجها المذكور». «حدثتني أنها كانت في حال تربيتي إذا جاء وقت الصلاة… تجعلني في ظهرها وتذهب لتصلي. ومنذ أخذت عقلي ما تركت الصلاة في وقتها قط فيما أعقل. وكنت وأنا صبي نتوضأ لكل صلاة وتبل ثيابي، فقالت لي الأم خوفا من عفن الثياب تيمم وصل. فعلمتني التيمم، فصليت أياما ظننت أن ذلك يصح مع وجود الماء، ثم ردتني إلى الوضوء.». كان اختياري لأم سيدي بن عجيبة الفقيه والعارف بالله، اختيارا عن نية وقصد ومرمى، فالأسرة ذات نسب شريف وصلاح وخير وبركة واستقامة، أجداد وجدات، أبناء وأحفاد، ذكور وإناث، ونستحضر في هذا المقام جدة سيدي بن عجيبة الولية الصالحة «المكاشفة الكبيرة السيدة بنت الولي الصالح سيدي ابراهيم بن عجيبة كانت من أهل الإغاثة في البر والبحر»، ولعل هذا ما أشار إليه سيدي ابن عجيبة بقوله «فالصلاح في أسلافنا قديم». تمثل شخصية «رحمة بنت سيدي محمد»، أنموذجا للأم الصالحة والمربية الموجهة، التي جمعت بين طاعة ربها وتربية أبنائها، وأدركت الغاية والحكمة من أمومتها، فأدتها على أحسن وأكمل وجه. حبيت الصلاة إلى ابنها منذ الصغر وعلمته فرائضها وسننها، واصطبرت على ذلك كما أوصى الله عز وجل في كتابه، بل وأشعرت الابن بحلاوة أداء الصلاة بإركابه على ظهرها لتساعده على مغالبة النوم. وهذه صورة رائعة وجليلة ينبغي على الأمهات في عصرنا الراهن أن يحيينها في بيوتهن ليتعلق قلب الناشئة بالصلاة. استوقفني كلام سيدي ابن عجيبة، وتأثرت به أيما تأثر، واستشعرت معانيه، حينما قال إن أمه كانت توقظه للصلاة. عندها عرفت قيمة المرأة العظيمة التي ربت وعلمت أبناءها أداء الصلاة في وقتها وقبل ذلك حرصت على إتقانهم الوضوء، وربطت قلوبهم بالله وبحب رسول الله وتكون بذلك قد أحيت في قلوبهم سنة رسول اللہ صلى الله عليه وسلم. يقول سيدي ابن عجيبة: «كانت نشأتي والحمد الله في صيانة وحفظ ورعاية وعفاف… فكانت أوقاتنا كلها معمورة بين مطالعة ومدارسة وعبادة». من خلال كلامه هذا، تتجلى مظاهر الصلاح والخير والنفع والعناية في الأسرة بكاملها، فالكلمات «صيانة وحفظ ورعاية وعفاف»، لها دلالات عميقة وتختزل معاني جليلة منها: عناية الله أولا، ورعاية الأم والأب ثانيا، وجدية الأبناء ومسؤوليتهم اتجاه العبادة والدراسة. هي إذا أعمال عظيمة قامت بها الأم العظيمة، من تنشئة سليمة وتربية متوازنة وسلوك قويم، وهي بهذا تنهج نهج الصحابيات الجليلات، وتصنع التغيير كما صنعن. وأضيف إلى هذه النماذج، أنموذجا نسائيا رفيعا أجد أنه حقق توازنا كبيرا في مفهوم العبادة، وتمثله بشكل سوي ومستقيم في الحياة اليومية، هو السيدة «عالية بنت الطبيب السيد محمد لوقش»، وزوجة السيد علال الخطيب (عاشت في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين)، درست الطب على والدها، فكانت تداوي الناس من الأمراض الخبيثة، كما كانت تهيء الدواء لمرضاها بنفسها على شكل مرهم أو شراب، معتمدة على الأعشاب البرية التي كانت تطبخها، وكانت تحفظ القرآن كاملا، وتكثر من الدعاء وقراءة من دليل الخيرات والبردة والهمزية. فالسيدة عالية إذن، مثال جامع للمرأة التطوانية العابدة التي جمعت بين طاعة الله وخدمة خلقه، وبين تطبيب القلوب والأجساد، وبين عبادة القلب والجوارح، إنها بحق أنموذج أدرك أن أبواب العبادة كثيرة لا تنحصر في الصيام والصوم والحج…وإنما تشمل كل عمل فيه طاعة الله وامتثال لأمره وإحياء لسنة نبيه وخدمة لأمته، شرط إخلاص النية له سبحانه دون سواه. إن السيدة عالية صورة نقية للمرأة التطوانية العابدة التي تحيي في ذاكرتنا جميعا، ما كانت عليه الصحابيات الجليلات من سلوك تربوي وروحي قويم، يبتغين فيما أتاهن الله الدار الآخرة ولا ينسين نصيبهن من الدنيا، ويجعل المرأة المسلمة تتلمس الخير حيث كان، فلا تفصل بين العبادة وذكر الله وبر الوالدين وحسن الجوار وخدمة أهل البيت وتفريج كرب الناس…؛ لأن هذه الأعمال إن عظمت فيها النية وخلص فيها الطلب، تحقق كلها العبودية الله تعالى. وتبقى هذه النماذج نقطة في بحر زاخر لنماذج نسائية تطوانية؛ وإن أجحفت في حقهن الأقلام؛ فقد بقين عالقات في الذاكرة الشعبية عند كثير من النساء والرجال، ويبقى على عاتق المرأة حمل ثقيل لإحياء أمجاد مثل هذه النساء، وتدوينها والانتقال بها من التراث الشفهي إلى التراث المكتوب. عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع..