«إنها تشبه إلى حد كبير غرناطة…» حتى نعتها مؤرخ تطوان محمد داود، بكونها «نسخة من أخريات المدن الإسلامية العربية في بلاد الأندلس والحاضنة للحضارة الإسلامية الأندلسية»، هذه هي تطوان، انحدر سكانها من الحضارة الأندلسية الأصلية التي تميزت بشيوع القيم الإسلامية النبيلة وبتمثل الأخلاق الفاضلة. فالجو العام الذي كان يسود المجتمع التطواني هو جو محافظ تمتد أواصره بالمجتمع الأندلسي المسلم. رجال المدينة ونساؤها جبلوا على فعل الخير وعلى تعظيم الشرفاء واحترام العلماء وتوقيرهم، وتشبع أبناء وبنات مدينة تطوان بعلماء أجلاء ورجال صالحين أمثال: سيدي علي بركة، وسيدي أحمد ابن عجيبة، وسيدي محمد الرهوني، وسيدي التهامي الوازني… وقبلهم رجال كثيرون من صالحي هذه الأمة. ويمكن أن نشير إلى ما عرفت به تطوان، من التزام بالشرع، وصلاح أحوال رجالها، حتى عرفت بأنها مدينة الأولياء، وبانكباب أهلها على طلب العلم بشتى مشاربه. وإذا كانت الأسرة الصالحة تمثل العامل والمؤثر الأول في بناء شخصية المرأة التطوانية عامة، والعابدة على وجه التحديد، فإن الزوايا تشكل قطب الرحى بالنسبة للمجتمع التطواني ككل رجاله ونسائه. ولا يمكننا الحديث عن تطوان دون أن نتطرق إلى جانب مهم من حياتها الدينية والروحية، فللزوايا في مدينتنا خصائصها ووظائفها المؤثرة اجتماعيا وتعليميا ودينيا، كما أن لها تاريخا عريقا وممتدا إلى سنوات عديدة مضت، وهي طرق ومقامات متعددة منها: الزاوية الريسونية، والزاوية الناصرية، والزاوية التيجانية، والزاوية الحراقية … إذن نحن أمام تعدد واختلاف كبيرين؛ لذا يجدر بنا أن نفصل الحديث في مدى تأثير هذه الزوايا في تكوين شخصية الفتاة التطوانية العابدة والتأثير على سلوكها ووظائفها. في تاريخ المغرب عموما، وتاريخ التصوف خصوصا، كان للزوايا دور رائد، تمثل في الحفاظ على الإرث التربوي الروحي للأمة؛ من ذكر وتحفيظ للقرآن الكريم والحديث، وتدريس للفقه وأصوله… ومدينة تطوان لا تخرج عن هذا السياق؛ فهي مدينة الزوايا – إن جاز لنا قول ذلك- ومنبت أهل الخير والصلاح، تجذرت هذه الزوايا في الوسط التطواني وغيرت الكثير من جوانبه وأسسه وخصوصا الأساس التربوي والروحي، ولعل هذا ما أشارت إليه حسناء داود بقولها «لقد عرفت تطوان تغييرا جذريا في حياتها الروحية، تزامنا مع انتشار الزوايا فيها». فالزوايا طرقت أبواب الأسر التطوانية، وولجت البيوت محتضنة أبناءها وبناتها، ومساهمة في ترسيخ معاني التربية الإيمانية والسلوك القويم والأخلاق الفاضلة. هكذا تأثرت المرأة التطوانية منذ ريعان شبابها بالجو الروحي الصوفي العام الذي كان سائدا في المدينة، وهذا أمر طبيعي فالإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها. تأثرت الفتاة بأبيها الذي كان قلبه معلقا بالمسجد، يحرص كل الحرص على أداء الصلاة في الجماعة، ويلتحق بالزاوية صحبة الابن الأكبر والجار، لحضور حلق الذكر ومجالس العلم. كما تأثرت بأمها التي كانت محتضنة وملازمة لها في كل الأحوال والظروف، وكان لها من التعلق بالزوايا الشيء الكثير فتشربت منها ابنتها، معاني الطهر والنبل والاستقامة، لأنها أم صالحة وهبت نفسها لتربية أبنائها على الصلاح والفضيلة، وكان لها ورد ثابت أيضا من الأذكار والأوراد وتلاوة القرآن، فكانت لأبنائها وبناتها القدوة والمثال في العبادة والأخلاق والمعاملة والسلوك. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الزوايا – قبل انحرافها عن جادة الطريق – كانت تضطلع بدور رائد في توجيه السلوك التربوي والروحي والصوفي لساكنة تطوان قاطبة. وقد ظهر هذا في التغير الجدري الذي أحدثته الزوايا في الحياة الروحية التطوانية، وبلغ صداه إلى أنماط التفكير وأساليب العيش. لكن ما فتئت أن انحرفت عن مسارها الحقيقي، لاسيما في ما يتعلق بالكرامات والتواكل والتبرك بالأولياء والأضرحة، وهذا ما تؤكده الأستاذة سعاد الناصر في معرض حديثها عن الانحرافات التي طالت الزوايا خصوصا في القرن الحادي عشر» كانت الزوايا تعنى بتخريج العديد من الفقهاء وكان لها تأثير كبير على حياة الناس بصفة عامة، ولكن للأسف كان التأثير سلبيا يتعلق بالكرامات الخارقة والتواكل المطلق على الأولياء». والحقيقة أن تاريخ التصوف بالمغرب يظهر أن المتصوفة المغاربة كانوا «يتميزون بمنهج خاص في التربية والسلوك يقوم على أساس الزهد والورع والاجتهاد في العبادة على منهج السلف، بعيدا عن لغة الأحوال والمقامات ..». إن طريقة تعامل بعض أهل تطوان مع الصالحين، فيها كثير من المبالغة والجهل والاعتقاد الخاطئ، فهم لا يقتنعوا بهم إلا إذا ذكرت كراماتهم، «فالعقلية الخرافية كانت مسيطرة على النفوس بشكل مهول ولافت للنظر، فمثلا نجد الشريف الريسوني يؤمن أن الزاوية هي زاوية جهاد ورباط في حياة الأمة ولم يكن بتعلق بالكرامات، بل كان يعمل جاهدا من أجل تنوير العقول من الخرافة، لكن الناس نسبوا إليه من الألقاب الصوفية ما كان يستنكرها في حياته». ونجد الأمر أشد خطورة عندما يتعلق الأمر ببعض رجالات المدينة المهمين ومنهم الأديب سيدي «مفضل أفيلال»، تقول سعاد الناصر: «وهذا الأديب سيدي مفضل أفيلال رغم اتصاله بالعديد من مفكري وأدباء المغرب-كما جاء في كناشه- إلا أن العقلية الخرافية كانت غالبة عليه» والجدير بالذكر هنا – وكما فسرت ذلك سعاد الناصر – أن أغلب الأدباء والعلماء في هذه الفترة كانوا ينتمون لإحدى هذه الزوايا على طريقة الآباء والأجداد، ويزداد التأثير السلبي للزوايا تفاقما مع العوام والنساء، وفي الأوساط التي يغلب عليها الجهل والفقر، وقد امتد ذلك إلى عهد غير بعيد، يحكي الأستاذ عبد الله الشارف، وهو من أبناء تطوان- عن أمه ومدى تعلقها بالزوايا لدرجة التوسل والرجاء: « والحقيقة أن أمي في هذه الفترة التاريخية، كانت تعتقد مثل عامة المجتمع التطواني والمغربي آنذاك ولاسيما أفراد الطبقة الفقيرة، تأثير الزوايا والأضرحة في نفوس العباد وفي إمكانية دفع الضر عنهم وجلب الخير لهم خلافا لما كان عليه أبي من التمسك بالعقيدة والبعد عن الخرافات». ويشير المؤرخ الكبير محمد داود إلى هذه الانحرافات والخرافات أيضا، عندما يتحدث عن الولي الصالح سيدي علي بركة رحمه الله قائلا: «إن سيدي بركة رحمه الله، كان بعض الناس يقصدون ضريحه، كما يقصدون ضرائح الأولياء لقضاء حاجاتهم، وهو رحمه الله إنما كان رجلا من رجال العلم والعمل والعبادة والتقوى. إلا أن بعض الناس من لا يستطيعون معرفة الله ولا يرجون منه خيرا إلا بوسائط ولا يتصورون الولي إلا بكرامات وخوارق…». إن الحديث عن هذه الكرامات والإصرار على ذكرها، هو حديث عن أمر يصعب إنكاره في شأن الأولياء لأن المعجزات حق عند الأنبياء، والكرامات لا ينكرها أحد، ولكن يحق لنا مقابل ذلك أن نستنكر ما وصل إليه الناس من سوء تعاملهم مع هذه الكرامات، حتى إنهم بدأوا يتبركون بأصحابها ويتصورون عنهم أمورا استنكروها هم أنفسهم في حياتهم. إن شيوع ثقافة التبرك والاعتقاد الراسخ في جلب النفع ودفع الضرر في الأولياء، قد نقول أنه كان مقتصرا على فئة معينة استسلمت للخرافة والتواكل ومالت للعجز والكسل، وأستبعد أن تكون المرأة التطوانية العابدة القانتة والفقيهة الصالحة قد سقطت في شراك هذه الثقافة المضلة والعقائد الفاسدة، وأتوقع أنها كانت تستقبحها وتستهجنها ولا ترضخ لها، فهذه السلوكات وجدت في الأوساط الشعبية النسائية أرضا خصبة؛ حيث الأمية والجهل والاعتقادات الخاطئة؛ بينما كانت نساء شوهد لهن بالولاية، ولم يكن منزويات ومنعزلات بل كن حاضرات في المجتمع يصنعن التغيير، وهذا ما سنقف عليه في المبحث الثالث «قراءة في نماذج». ويأبى محمد داود إلا أن يثبت «أن أهل تطوان أهل جهاد وأهل رباط وأهل عمل «ويلفت النظر إلى أن أهالي تطوان على العموم، لم يكونوا يقتصرون على التعلق بأذيال الأولياء والاعتماد عليهم في قضاء الأغراض والحاجات بل إلى جانب ذلك يجاهدون بسيوفهم ورماحهم. الجهاد في سبيل الله بالسيوف والرماح، أكبر منه جهاد النفس وتزكيتها من القبائح والرذائل، وتلك آثار العبادة المستقيمة التي لا تعلق فيها للقلب إلا بالله. عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع..