لا يخفى على ذي بصيرة أن المؤمن والمؤمنة عندما يعبدان الله حق عبادته، ويتوجهان إليه بصدق وإخلاص في كل الأعمال والطاعات، فإن ذلك يحقق لهما السعادة في الدنيا والآخرة لتعلقهما الدائم بالخالق عز وجل، ويزكي نفسهما من الرذائل ويهذب أخلاقهما من القبائح ويطهر روحهما من الآثام. وهذا ما جسدته المرأة التطوانية العابدة، التي استشعرت قيمة العبادة وتذوقت طعم الإيمان ولذة التقرب من الله، فواظبت على صلاتها فرضا ونفلا، وأكثرت الذكر وتلاوة القرآن حتى اطمأن قلبها وعظمت شعائر الله، فتجلى ذلك في سلوكها وأخلاقها ومواقفها ومعاملاتها، ويشهد لها بذلك كل من عاشرها وصاحبها من صغير أو كبير، وهي إنما تمثل أخلاق أهل تطوان الأصيلة؛ فأخلاق هذه المدينة أخلاق شريفة كما يعلم ذلك كل من عاشرهم. ومن الأخلاق الشريفة التي اتسمت بها المرأة التطوانية عموما والعابدة خصوصا، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: – العفة والحياء: وهما خلقان رفيعان وقيمتان حميدتان تبعثان على كل خير، وبهما عرفت المرأة التطوانية التي إذا ذكر اسمها، ذكر العفاف والحياء والسمت الحسن والوقار ولين الجانب وخفض الصوت، وتقدير الأعراف الحميدة، وهذا ما أكده العلامة أحمد الرهوني في قوله «فإن الكثير منهم (أهل تطوان)، وخصوصا النساء والولدان يستحيي من الله ومن الخلق؛ فلا يفعل ما يستحيى منه، ومن المعلوم أن الصدق والحياء من الإيمان». ويصل الإيمان والحياء والعفة بالمرأة التطوانية الشريفة إلى اتقاء الشبهات وتجنبها في كل الأمور. وإلى ذلك أشارت الأستاذة حسناء داود، عندما تحدثت عن زينة المرأة التطوانية «ومن الجدير بالذكر أن السيدات المحافظات عندما لاحظن أن موضة الراية بدأت تسري بين العاهرات، تركنها وتخلين عنها». ومما لا شك فيه، أن التربية بالقدوة وصحبة عامة نساء تطوان للنساء العابدات اللواتي اخترن لأنفسهن طريق الزهد والورع والتقوى والترفع عن النقائص، كل ذلك أثر بشكل إيجابي على عامة نساء تطوان أو جلهن إلى عهد غير بعيد، فكن يلتزمن الحياء والحشمة ويراعين الشرع وحدوده ويتجنبن كل ما يخدش السمعة والحرمة والعرض في كل تفاصيل الحياة، وهذا أمر كان يراعيه حتى المسؤولون. ففي النصف الأول من القرن العشرين-علما أن الفترة كانت فترة الحماية الإسبانية – خصصت مساحة معينة من أطراف شاطئ مرتيل، لاستقبال السيدات دون غيرهن، حيث كان الحصار مضروبا على «شاطئ السيدات» دون أن يتزاحمن في الشاطئ مع الرجال أو يتعرضن لعيون الفضوليين. وللأسف الشديد، مع تأثر المرأة التطوانية وغيرها من النساء بموجات التحديث والتغريب وانحراف مفهوم العبادة عن جادة الطريق، بدأت هذه القيم تتلاشى… – البر والإحسان: اللذان تمثلهما المرأة التطوانية في كل مناحي الحياة؛ وأخص بالذكر هنا، البر والإحسان إلى الوالدين؛ إذ ارتقت العبادة بالمرأة الصالحة، إلى التودد إليهما، فخفضت لهما جناح الذل من الرحمة، وخدمتهما وأكرمتهما عند الكبر، حتى لتجد المرأة التطوانية تستشعر أنسا كبيرا بوجود والديها معها وهما في أرذل العمر، لا تتوانى في إسعافهما وخدمتهما، ولا تتأفف لذلك حتى وإن ظل الواحد منهما، عليل الجسم، طريح الفراش سنوات وسنوات. وكانت المرأة التطوانية العابدة تتواصى بذلك بين قريناتها، وتورث معاني البر والإحسان بالوالدين للأبناء، ويورثها الأبناء للأحفاد. حتى أصبح يقال عن أهل تطوان أنهم عرفوا ببر الوالدين وكانوا فيه على الوصف الكامل. ولم تلتزم المرأة التطوانية خلق البر والاحسان مع الوالدين فقط، وإنما مع جميع الناس من أهل وأقارب وجيران، تحسن إلى الضعيف والفقير وتكرم الضيف وترفق المعدوم وتواسي المكروب وتتضامن مع المحتاج، دون أن تفصل ذلك عن العبادة والطاعة. – العناية بالنظافة والطهارة: وهذا أمر من باب تحصيل حاصل بالنسبة للمرأة التطوانية العابدة التي تحرص على إتقان وضوئها وغسلها، وطهارة مسكنها وملبسها، حرصها على إتقان كل الصلوات والعبادات، ولا نبالغ في الأمر إن قلنا إن هذا السلوك جامع وشامل لمعظم أهل تطوان، رجالا ونساء، فذلك إرث تربوي عظيم ورثوه من أجدادهم الأندلسيين، الذين كانوا أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفترشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو منها العين. فالمرأة التطوانية العابدة سارت على نهج الأجداد في اتباع هذه السنة الحميدة التي يوصي بها الشرع ويحث عليها، لما فيها من عظيم الأثر على الفرد وعلاقاته مع الناس. ونماذج النساء العابدات اللواتي اعتنين بالنظافة أيما اعتناء كثيرة جدا، نكتفي بذكر السيدة خديجة الريسونية التي أخبر العلامة أحمد الرهوني أنها كانت تتحرى النظافة تحريا عظيما). ونموذج السيدة خديجة الريسونية، يفتح لنا المجال لنتحدث عن نماذج نسائية أخرى ممن عرفن بالعبادة والزهادة والورع والتقوى في تاريخ تطوان. عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي الكاتب: كتاب جماعي الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بريس تطوان يتبع..