نجح أدب الخيال العلمي في تهيئتنا لتقبل تأثير العلم الفوري ونفوذه الجديد... وفي اطلاعنا على كل ما يستطيع أن يوفره لنا من إمكانات، وفي تحذيرنا من أفكاره المحتملة، وهو يلعب دورا حاسما في الإبداع التكنولوجي، والعلوم الهندسية، والتربية العلمية.
ينطوي المفهوم المعاصر للتربية عن طريق العلم ضمنيا على وضع إطار من الأهداف للمنهاج الشامل والمتكامل للعلوم والتكنولوجيا وذلك في سياق اجتماعي معين. ويمكن في هذا الإطار تقديم المفاهيم الأساسية والمواقف والأساليب العلمية إلى الناشئة منذ بداية مراحل التعليم وتطويرها خلال عملية التربية، لذلك فمن الضروري تزويد الناشئة بطيف عريض من ألوان المعرفة بغض النظر عن تصنيفها، إذ مهما تكن التسميات التي نعطيها لهذه المعرفة فإن من حق الأطفال الحصول على خبرة العلوم التجريبية وعلوم الجمال وغيرها في شتى ميادين الجهد البشري، فالطفل الذي يقتصر تعليمه على الفيزياء والكيمياء والاحياء والرياضيات واللغة لا يقل حرمانا عن الطفل الذي لا يتعلم سوى التاريخ والجغرافيا والفن والآداب، وكان من دواعي نمو العلوم والدراسات الاجتماعية المتكاملة إدراك الحاجة إلى منهج متوازن لجميع الأطفال حتى مرحلة متأخرة من تعليمهم قدر الإمكان.
عموما تبدي الناشئة قدرا كافيا من الخيال ومن القدرة على التفكير المستقل إضافة إلى رغبة مستمرة في الاطلاع، فروح الاستكشاف كامنة في باطن كل كائن بشري، أما الحافز الأساسي للاستكشاف فهو حاجة الفرد إلى إشباع فضوله ورغبته في الاستطلاع وتكون هذه الرغبة قوية في نوع خاص عند الشباب، فهم يتوقون إلى مشاهدة كل شيء وتعلم وسبر أغوار كل شيء، لكن هذا الشغف في التقصي والاستكشاف يتلاشى ويخمد عند الكثير منهم على مر الزمن. أما الذين يترسخ عندهم هذا الشغف فيصبحون باحثين. وخلافا للميول والمشاعر الإنسانية الأخرى لابد من ضبط حب الاستطلاع والاستكشاف هذا وتنظيمه، فالفضولية العلمية على عكس الفضول العادي البسيط تتطلب نظاما وتنبؤات ومراجع وعناصر أخرى مختلفة. إننا نعيش – شئنا أم أبينا – في عصر غدا فيه التقدم العلمي الظاهرة السائدة في حياتنا، والعامل الرئيسي في نسج لحمة المجتمع الذي نحيا فيه، ففي أدب الخيال العلمي رسالة تربوية تستهدف إعداد الرجل العادي والناشئة وتهيئتهم لتقبل ما يحرزه العلم في هذا القرن من تقدم لم يكن ليخطر على بال أحد، وأدب الخيال العلمي شأنه شأن العلم ذاته هو ثمرة الخيال، ولئن بدى واقع العلم اليوم أبعد عن تصديق وثبات الخيال العلمي، فلسوف يواصل كلاهما إثراء الآخر والعمل على الإفادة من تراثه. ولقد نجح العلم اليوم في فرض وجوده على حياة المجتمع من كافة جوانبها ومناحيها.. على الفن والتربية والتنظيم الاجتماعي. ولعل أعظم حسنة تذكر لأدب الخيال العلمي هي أنه نجح في تهيئتنا لتقبل هذا التأثير القوي وذلك النفوذ الجديد، وفي تحذيرنا من أخطارهما المحتملة. وفي اطلاعنا على كل ما يستطيع العلم أن يضعه في متناولنا من إمكانيات، غير أن ما يفعله الخيال العلمي أولا وقبل كل شيء هو أنه يحطم شبح العلم في تذكيره إيانا دائما بأن صرح العلم مشيد على أساس خيال الإنسان بما عنده من قوى تحليق وتصور كبيرين. فالخيال العلمي الذي يضم في أوسع معانيه المخيلة والخيال المبدع والذي يبشر في الإنجاز العلمي ويمهد له السبيل قديم قدم البشرية، وهو يستقي مادته – شأن الأساطير – من حلم الإنسان القديم في السيطرة على الطبيعة.
ففي ابتكار الأدوات والأساليب التقنية – أيا كانت درجة بساطتها – يختلط الحلم بالعقل والخيال بالحساب الدقيق. وليس من السهل دائما أن نميز بين هذا وذاك. وعلى ذلك يمكننا أن نفسر على أوجه مختلفة تلك الرسوم التي كان يخطها إنسان ما قبل التاريخ على جدران الكهوف والتي تثير الإعجاب بحيوتها وواقعيتها فلعلها لم تكن سوى أضغاث أحلام تمخض عنها "الخيال العلمي" البدائي وابتكرتها مخيلة رسام ما قبل التاريخ أو مشروعات أو ربما تصاميم لصنع فخاخ للقنص أعدها أولئك المهندسون الأوائل قبل تنفيذها.
وعندما لا يسمح مستوى التطور التكنولوجي الذي بلغته حضارة ما بإنجاز مشروعات معينة، فإننا نعتبر تلك المشروعات وليدة الخيال العلمي. فقبل ظهور الطائرات بأربعة قرون كان ليوناردو دافنتشي قد صمم أول نموذج لآلة طائرة، ولم يكن مشروعه في نظر معاصريه إلا خرافة تكنولوجية، إذ لم يكن في استطاعة أحد أن يشرح كيف يمكن أن تدار مروحة ذلك السلف البعيد لطائرة الهليكوبتر نظرا إلى أن المحركات لم تخترع إلا بعد ذلك في زمن طويل.
وكانت تلك حالة الرحلات الفضائية منذ ما لا يزيد على بضع عشرات من السنين، فلما لم يكن التطور التكنولوجي قد بلغ الحد الذي بلغه اليوم، كان من المحال أن تصنع صواريخ تملك من قوة الدفع ما يكفي للوصول إلى الفضاء، غير أن أدب الخيال العلمي كان تنبأ بالدور الحاسم للصاروخ فشهد بذلك ما عمد إليه الكاتب "جول فيرن" من تزويد مركبته القمرية بعدة صواريخ مساعدة. أما تنبؤاته العلمية والتقنية فهي تسمو على الحصر. ومن المعروف أن ما يربو على المائة من تنبؤاته "الخرافية" غدت حقيقة واقعة في وقت لاحق. وكذلك كانت لمؤلفات الكاتب "سيرانودي جيراك" أثرها الكبير في مجال التنبؤ العلمي عن الصواريخ ذات الطوابق المتعددة فضلا عن انعدام الوزن والهبوط بالمظلات. والقول بأن جسم الإنسان مكون من خلايا والتنبؤ بظهور المصابيح الكهربائية وغيرها من الوقائع العلمية التي تحققت في ما بعد.
وفي الوقت الحاضر حيث تعد الروبوتية (الإنسان الآلي) واحدة من مجالات التكنولوجية الطليعية، يجدر بنا أن نذكر أن كلمة (Robot) هي من ابتكار الكاتب التشيكي كاريل تشابيك. واليوم ترك الإنسان الآلي مجال الخيال العلمي لكي ينخرط في سلك المصانع، وإن كان تطويره لا يزال يسترعي اهتمام مؤلفي قصص الخيال العلمي بقدر ما يسترعي اهتمام المهندسين. والأمر ذاته بالنسبة لأشعة الليزر، تلك الأشعة الخارقة التي كانت قبل 50 سنة – ولم تزل بعد سرا غامضا – أحد الموضوعات الأثيرة في أدب الخيال العلمي، وأصبحت اليوم تقطع الفولاذ، وتلحم السبائك الصلبة في المصانع، وتستخدم في مجالات عديدة منها الطب والمواصلات السلكية واللاسلكية. أما الفضاء الخارجي الذي كان مجالا مفضلا من مجالات نشاط الخيال العلمي صارت تقام فيه اليوم مختبرات ومراكز أبحاث وورشات تقنية، ولم يعد رواد الفضاء شخصيات في قصص الخيال العلمي وإنما باحثون ومهندسون يعملون في مضمار تقنيات الفضاء الجديدة.
وليست جهود العلم في ما يتعلق في استكشاف قدرات العقل الإنساني بعيدة كل البعد عن مواكبة تحديات الخيال العلمي، فإذا كانت ظاهرة تلافي الخواطر (Télépathie) التي درج كتاب الخيال العلمي على رؤيتها بعزم وإصرار في مستقبلنا كامنة فينا، فما نوع الأداء المخي الذي يكمن وراءها؟ وهل هذا السؤال سابق لأوانه؟ ففي العام 1982م قدم عالم الفيزياء "آلان أسبيه" ومعاونوه في جامعة باريس براهين قاطعة تثبت أن وحدتين من وحدات الكم الضوئي (فوتون) التي تقع في المجال الميكروسكوبي وتخضع لقوانين الفيزياء الجديدة ميكانيكا الكم تستطيعان الاتصال عن بعد بدون تبادل إشارات ويعتبر هذا النوع من الأداء والذي يطلق عليه المصطلح التقني اللاموضعية (Non Localité) إحدى الخواص الأساسية في أنظمة نظرية الكم.
ولئن كان أحد الأهداف الرئيسية للتطور التكنولوجي وهو تحسين وسائل الإنتاج من أجل زيادة المردود يبدو للوهلة الأولى هدفا لا علاقة له في الخيال والإبداع، فإن هذه ليست سوى نظرة سطحية حيث إن كل إنجاز تكنولوجي تسبقه مرحلة أولى على درجة بالغة من الأهمية وهي المرحلة التي يجري فيها البحث عن كافة الحلول الممكنة لمشكلة معينة انطلاقا من أقصى قدر يمكن الحصول عليه من معلومات. الأمر الذي يتيح للأفكار أن تتبلور، وفي هذه المرحلة يكون للحدس والخيال والإبداع من الأهمية ما يفوق أهمية الكفاءة التقنية المحضة. ولقد لعب هذا الخيال الطليق دوره في اختراع العجلة بقدر ما لعبه في تشييد الأهرامات المصرية أو في إنتاج أول طائرة ما فوق صوتية، ولن يكون هذا الدور أقل ضرورة لصنع الحاسبات المصغرة.
والابتكار في العلوم الهندسية عملية أقرب مما نظن عموما إلى العملية المناظرة لها في مجال أدب الخيال العلمي. فهما شكلان متشابهان من أشكال الإبداع البشري كلاهما موجه نحو البحث عن حلول جديدة وإن اختلفت السياقات والأهداف في إحداهما عن الأخرى، وقد أثبت تاريخ التقدم التكنلوجي أن الخيال إذا ما دعمته المعارف العلمية لا يكف عن بذر الأفكار الجديدة والتصورات المبدعة الأصيلة، واتضح من الدراسات أنه لابد لصنع أية آلة أراد لها أن تلقى رواجا تجاريا من أن تدرس مسبقا ما بين خمسين وستين فكرة جديدة على الأقل، ذلك هو المجال الذي يستطيع فيه أدب الخيال العلمي أن ينهض في دور حاسم في الإبداع التكنولوجي، وهو دور لا يتمثل في تقديم أفكار دقيقة أو حلول عملية يتمخض عنها خيال الكاتب بقدر ما يتمثل في حث الباحثين والمهندسين على إيجاد حلول جديدة. لذلك فإن التأمل العميق الطويل والخيال الواسع يسهمان في استثارة فضولنا، ذلك أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي وهب الخيال ومنح القدرة على تصور ما لا وجود له وزود بعقل يمكنه أن يقهر الزمان والمكان، ويتصور أشياء لم يكن لها وجود من قبل قط، فهو يوسع بذلك حدود العلم ويمد آفاقه، فليس للعلم إذن وجود بدون خيال علمي.
ومن المؤسف أن ضرورة روح الإبداع والابتكار هذه لا تراعي حق المراعاة في أية مرحلة من مراحل التعليم المدرسي. ولعل أخطر الثغرات التي يعاني منها كثير من نظم التعليم تكمن في عدم إعطاء الخيال والإبداع حقهما من الاهتمام مما يؤدي إلى إغفال تنشيط قدرات الناشئة الإبداعية في السن التي تتكون فيها شخصيتهم، بيد أن أخطر ما في الأمر هو أن بعض الأنشطة التربوية كثيرا ما تنظم على نحو يئد قدرات الإبداع هذه.
إن أوثق الروابط التي تربط بين العلم بالخيال العلمي وتجعل منهما شريكين متعاونين في التأثير على الواقع هو الخيال، فما من مجال يلعب فيه الخيال والتفتح العقلي الذي يعزز الخيال وينميه دورا أكثر حيوية من الدور الذي يلعبه في مجال استكشاف طبيعة الواقع ذاته وبنيته ومصيره، فالعلم والخيال العلمي ينهضان معا بمهمة استكشاف الفضاء والزمن والحياة وموقع وعينا البشري في هذا الكون، وكلاهما يؤدي هذا العمل على نحو مرض يتوخى فيه التقدير والاحترام والتشجيع المتبادل، ولما كان الخيال واحدا من أهم أسلحة الطالب في قاعة الدرس، لذلك أصبح من الواضح اليوم أن على المربين أن يروا في أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة لا لفرض حب العلم في قلوب تلاميذهم فحسب بل في تشجيعهم أيضا على ربط حركة الواقع بتطورات العلم من جانب، وتنبؤات الخيال العلمي من جانب آخر، ذلك أن الارتقاء إلى مستوى مهام القرن الحادي والعشرين وتحدياته يتطلب إسهام الفنون والعلوم على السواء.
*..-*..-*-..* والله الموفق 2017-07-20 محمد الشودري