ورد في بعض الوثائق الإسبانية السرية، أن الجنرال فرانكو أراد أن يستغل الأزمة المغربية إبان اعتداء فرنسا على العرش المغربي لسنة 1953، لينفذ تطبيق نظرية أصيلة في المرجعيات الاستعمارية تتعلق بتقطيع وتمزيق الرقعة الجغرافية للدول المستعمرة ( بالفتح ) حتى تتم السيطرة عليها بسهولة تامة وبدون عناء، والفكرة هنا هي فصل منطقة الشمال عن باقي التراب المغربي. ولم يكن الجنرال فرانكو غافلا عما يمكن أن يحدثه هذا الإقدام من خطورة جسيمة على جسم الشعب المغربي ، لذا كان الموقف المذكور يتطلب دقة ومهارة عالية في التنفيذ، لذا كان عليه أن يختار أمهر خبراءه في الشؤون المغربية قصد التفكير والتخطيط في ضع برنامج يسمح بتنفيذ المخطط المقصود في سرية تامة، الذي ارتكز في جوهره على احتمالين اثنين لا ثالث لهما: الأول: انتزاع شمال المغرب والإعلان عن إنشاء مملكة مستقلة به ، ومبايعة الخليفة مولاي الحسن بن المهدي سلطانا عليها، فتصبح بالمغرب المجزأ بصفة نهائية دولتين مستقلتين، الأولى بالشمال والثانية بالجنوب. الثاني، الإعلان عن انفصال الشمال عن باقي التراب المغربي وجعله إدارة مستقلة تتم فيها بيعة الأمير مولاي الحسن بن المهدي كأمير مستقل لا علاقة له بسلطان المغرب، بحيث تكون خطبة الجمعة والأعياد باسمه وحده غير مشفوع باسم السلطان ، وهكذا تنفصم عرى صلة المنطقة وأميرها المستقل بالسلطة الروحية والسياسية للسلطان الشرعي، حيث أن الأمير المستقل لم يعد كما كان خليفة للسلطان.
وكان من أهداف مخطط التقسيم هذا، أن ينص في كل من البندين الأول والثاني على أن مملكة أو إمارة الشمال المستقلة ستكون مرتبطة ارتباطا تاما بالدولة الإسبانية عن طريق معاهدة تضامن تتكلف الدولة المستعمرة الإسبانية بموجبها بشؤون الدفاع والعلاقات الخارجية للمملكة أو الإمارة الشمالية المزعومة والمتخيلة. وأكاد أجزم هنا مرة أخرى بأن الجنرال فرانكو كان واعيا بالصعوبات الجسيمة التي سوف تحول دون الشروع في تطبيق مخططه الاستعماري هذا، خصوصا وأن حزب الإصلاح الوطني كان قد سبق له أن أعلن على لسان رئيسه الزعيم عبد الخالق الطريس موقفه من الاعتداء الفرنسي على العرش وعلى الجالس عليه، فأعلن عن تشبثه ببيعة الشمال للملك الشرعي أي السلطان محمد الخامس.
وفي هذا الصدد أصدر فرانكو أوامره إلى مقيمه العام بتطوان الجنرال كارثيا فالينيو ليوظف شخصية ذات أبعاد ثقافية واجتماعية واسعة في المنطقة كما لها تأثيراتها القوية على الأهالي ( شخصية كاريزمية بالمعنى المطلوب ) والتي يمكن الاعتماد عليها في تنفيذ وتطبيق بنود مخطط الانقسام المذكور وبدون مناقشته والتمعن في محاوره، وكانت شخصية محمد داود هي الشخصية المفضلة والمرشحة للعب مثل هذا الدور القذر عندهم ، لأن الأستاذ محمد داود حسب فالينيو هو الشخص الوحيد في الشمال الذي كانت تتوفر فيه جميع الشروط المطلوبة.
ومن المؤكد أن المقيم العام كان عليه أن يستشير ويتشاور في الموضوع مع نائبه في الشؤون الوطنية طوماس كارثيا فيكيراس، الذي يقول في إحدى رسائله، إنه لم يشاطر رأي المقيم العام الجنرال فالينيو في اختياره للفقيه داود، مما أدى بهذا الأخير أن يشمر عن ساعد البحث في تعيين شخصية ثانية في المنطقة، حيث أخطأ ضالته مرة أخرى جعلته يصر إصرارا تاما على اختياره للأستاذ محمد داود، وأبرق بمستجداته هذه إلى المدير العام لإدارة المغرب والمستعمرات بمدريد الجنرال دبياس دي فبييكاس، الذي كان عليه هو الآخر أن يربط الاتصال على وجه السرعة بفكيراس ليعرف الأسباب الكامنة والمنطقية وراء رفضه في اختيار الفقيه داود المرشح الأول لعملية التقسيم، ونستشف من خلال الوثائق السرية أن معارضة فيكيراس جاءت بعد أن تأكد تماما أن شخصية محمد داود كانت عصية مطاوعتها للمخططات الاستعمارية كيف ما كان لونها.
وفي هذا التوجه يقول طوماس كارسيا فيكيراس في إحدى رسائله الموجهة إلى الإقامة العامة الإسبانية ( لقد زودتنا الأستاذة حسناء مشكورة بنسخة من هذه الرسالة وهي باللغة بالإسبانية نقتطف منها بعض الفقرات الدالة على ما نحن بصدده على أن نعود لتفكيكها في مناسبة قادمة إن شاء الله) "أجل إني متأكد تمام التأكيد من أن داود لن يقبل أبدا التعاون معنا مهما كانت الطرق والوسائل التي نريد استخدامها معه من أجل أن نحصل على تأييده، بل بالعكس من ذلك، يجب أن نكون على حذر كبير منه لأنني متأكد كل التأكد ليس فقط من أن داود سوف لن يقبل بذلك، بل لأنني واثق من أنه سيكون العدو رقم واحد لمشروع التقسيم، بحكم معرفتي الجيدة بالأستاذ الذي يعرف ما يريده، ومن أجل تحقيق إرادته فإنه لا يتخذ الطرق الملتوية وإنما يتجه نحو مرماه مباشرة، وحيث إنه ليس برجل هاوي أو يهوى البذخ ،كما أنه لا يريد الرئاسة ولا الشهرة، فقد جعلته هذه الخصائص رجلا عفيفا نزيها، وهو الشرط الأساسي الذي حال دائما دون الاستطاعة أن نجعله يخضع لما هو الصواب في نظرنا، إنه رجل جد متدين يؤمن بمعتقداته، وفي نفس الوقت فهو يجسد التطور والتقدم العصري بحكم أنه لا يعتبر ذلك مخالفا لمعتقداته الإسلامية.
وللفقيه تكوين ثقافي متين للغاية، في كل من المجال التقليدي الأصيل والديني والمجال العصري، الشرط الذي جعله رجلا ذا أفكار واضحة وثاقبة، ورجل عمل دؤوب لا يعرف الملل. كما أن تاريخه الوطني مثالي حقا وذلك لأن كل ما قام به من أجل تكوين الناشئة المغربية، وبث الروح الوطنية فيها منذ أواخر العشرينيات قام به بصفة مستمرة وبدون مقابل، بل إنه أنفق من أجله ماله الخاص" انتهى كلام فيكيراس".
يتبين لنا بأن الفكر الوحدوي الذي كرس له الأستاذ محمد داود حياته برمتها في الحفاظ عليه، قد سبق الوحدويين بزمن طويل، وهذه الشهادة التي كتبناها أعلاه هي شهادة عدو بالدرجة الأولى، قبل أن يشهد بها الصديق. وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة جد مهمة تتعلق بعدول السلطات الإسبانية تماما عن اختيار الفقيه محمد داود وغض الطرف عنه، وقد كان من دواعيه نسف عملية تقسيم الجسم المغربي إلى قسمين مع الفشل التام لهذا المخطط الجهنمي الذي أقبر إلى الأبد.