آلاف مؤلفة من خطباء الجمعة يلقون خطبهم على منابر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، والذي يحضرها ويستمع إليها الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لهذا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة أمانة عظيمة وكبيرة في أعناق خطباء المنابر ، فيجب على كل من تحمل أمانة اعتلاءه التسلح بالحكمة والوعي والإدراك بالمتغيرات الإقليمية والدولية وبمصلحة الوطن والأمة، وعليه فهل حاول أهل العلم والتربية والفقه والفكر والرأي ومن أوكلت إليهم أمانة تسيير المساجد كوزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولنا العربية والإسلامية فتح تحقيق وتدقيق وبحث ونقد وتصحيح ونقاش فيما يتعلق بمواضيع خطب الجمعة ومضامينها ومحاورها وكيفية إلقاها ،بالإضافة إلى نوعية القضايا التي ينبغي معالجتها والتطرف إليها؟ وهل خطبة الجمعة اليوم توفي بالغرض التربوي المنشود التي فرضت من أجله؟ ؛ بحيث انعطف الكثير من خطباء الجمعة وأئمة المساجد ب “خطبة الجمعة” عن مسارها الصحيح، وتحديداً عندما ذهبوا بها إلى اتجاهات بعيدة عن هموم المصلين وقضاياهم وشؤون حياتهم اليومية؛ بل وابتعدوا عن خطها الطبيعي في تبصيرهم في أمور دينهم، وعلاقاتهم مع أسرهم وجيرانهم ومحيطهم الاجتماعي ونحو ذلك. علما أن خطبة الجمعة تلك الفريضة التي أضحت عبئا على بعض المصلين أحيانا فيأتونها متهاونين أو متأخرين حين يقارب الخطيب على الانتهاء من خطبته ليريحوا أنفسهم من سياط كلامه أو من السآمة التي تصيبهم جراء الاستماع إلى موضوعاته المكررة والمجردة التي لا تمس مشاكلهم وهموم حياتهم، إذ يجمع عليهم همَّا إلى همومهم، وآخرون يسارعون إلى أقصر خطبة تُخفِّف عنهم العبء ويسقطون بها عن كاهلهم الواجب المفروض ليريحوا ضمائرهم، وهناك صنف ثالث حوَّل الخطبة إلى وكالة أنباء وإلى موقع اخباري يدير من خلاله صراعه مع الآخرين، والكثير الكثير من خطباء الجمعة جعلوا من منابرهم ثكنات عسكرية يعلنون من خلالها حروبهم على جميع الحكام والدول والأمم والشعوب ! ولهذا حان الوقت للتفكير في معالجة هذا الأمر، وخصوصا فيما يتعلق بكيفية النهوض بواقع خطبة الجمعة في بلادنا العربية والإسلامية وفي المجتمعات المسلمة في الدول الغربية على وجه التحديد؟ . لأن دورها التربوي والاجتماعي والروحي يكاد يكون منعدما تماما ! لهذا نحتاج إلى مراجعة علمية دقيقة في كيفية اختيار وتعيين أئمة المساجد ومن يقوم بمهمة الوعظ والإرشاد وإلقاء خطبة الجمعة، فشباب اليوم أغلبهم لهم دراية ومعرفة وثقافة شاملة في كثير من المعارف والعلوم ومنها العلوم الدينية، وهذا راجع الى السهولة في الحصول على المعلومة الصحيحة الدقيقة بدل الاعتماد على خطباء المساجد الذين يجهلون الكثير منها ولا يحيطون بها علما، فالعالم اليوم أصبح قرية صغيرة وتسوده حرية التعبير والنقاش الحر المبني على الحجج العلمية الدامغة بدل الانصياع وراء بعض الأقاويل والخرافات والروايات والفتاوى التي تخطاها قطار الحياة وقطار العصر، فخطيب الجمعة اليوم ينبغي أن يكون ملما بجميع العلوم المعاصرة، بالإضافة إلى إلمامه بفقه الواقع وما يجري من أفكرار في محيط الشباب عبر الشبكات العنكبوتية، لكن للأسف، أغلب خطباء المساجد جهلة في هذا العالم؛ أي جهلة في عالم الفيسبوك وتويتر وواتساب وغير ذلك من أدوات التواصل الاجتماعي..ومن أخطر الأمور التي يقعون فيها خطباء المساجد اليوم من طنجة إلى جاكارطا هي اجتزاء نصوص الوحي في خطبهم المنبرية وإخراجها عن سياقها وظروفها وزمانها ومكانها ومقصدها التربوي والاجتماعي والروحي والتشريعي.. قلت: فاجتزاء النصوص القرآنية من سياقها كان في الحقيقة هو السبب الرئيسي في التطرف والإرهاب والتكفير وظهور حركات إسلامية متطرفة ومشايخ يصدرون فتاوى تجيز إكراه الناس على الدين بالقوة والعنف والسيف لقوله تعالى “واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم..” فاجتزاء هذه الآية -مثلا- وإخراجها عن سياقها أدى إلى بتر معناها وقلب المراد من مقصودها في جملتها، فإذا استقرأنا نصوص القرآن عامة في هذا الأمر نجد أن زعم إجبار الإسلام غير المسلم على اعتناقه بالقوة مردود بنصوص القرآن الكريم التي تكذبه تكذيبًا صريحًا وفي أكثر من موضع، يقول الله تعالى “قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. ويقول سبحانه:” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ”. إن هذين النموذجين من الآيات التي ترفع عن النبي صلى الله عليه وسلم الحرج ولا تكلفه فوق طاقته فالكل راجع إلى الله “فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ”، مشددة على أن الله لم يأمر رسوله قائلا: فإن أعرضوا فقاتلهم أو أجبرهم على الإيمان، وإنما قال: “فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا” ، فهل العلماء الذين أجازوا اجبار الناس على اعتناق الإسلام بالقوة والسيف هل هم أعلم أم الله؟! وهل الجماعات المتطرفة التي تجبر الناس على الدخول في الإسلام أولى بالإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟!! . لهذا قلت سابقا ينبغي على خطيب الجمعة اليوم أن يكون ملما بجميع العلوم والثقافات والمعارف المختلفة من فلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ والقانون والطب والمذاهب الوضعية المعاصرة، بالإضافة إلى علوم الشريعة الإسلامية وشعبها من فقه وحديث وتفسير وأصول وغيرها من العلوم الدينية؛ فالضعف المعرفي والثقافي والعلمي لأغلب خطباء المساجد في عالمنا العربي والإسلامي يدفعهم إلى ربط بعض الظواهر الطبيعية والكونية والاجتماعية والنفسية والغيبية كالأمراض المعدية والتخلف والفقر والجوع والكوارث الطبيعية من زلازل وشتاء وجفاف وفيضانات وبرق ورعد وغلاء الأسعار والظلم والبطالة والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قلت :يربطونها ويفسرونها بعدم التزامنا بديننا الإسلامي وعدم تطبيقنا لشرع الله تعالى، وكذلك يربطون هذه الأمور ب “نظرية المؤامرة” فكل ما يحدث لنا هي مؤامرة من الغرب الكافر، وعقاب من الله تعالى، استمعت لأحد خطباء الجمعة ذات مرة حيث قال في خطبته بأن غلاء الأسعار والظلم المنتشر في المحاكم وشهادة الزور والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل والتطفيف في الكيل والميزان وتسلط الحكام على شعوبهم مثلا هو عقاب رباني بسبب انتشار المعاصي في بلاد المسلمين !؛ وكأن أوروبا وأمريكا والبرازيل يسيرون وفق المنهج القرآني ويطبقون شرع الله تعالى ويتعبدون الله على المذاهب الإسلامية الأربعة!! . ما أحوجنا إلى العقول المتنورة والواعية والمتفتحة والمدركة لماهية الأمور؛ لأن نوعية هذه العقول هي التي تصنع السلم والسلام والحضارة والتاريخ، أما العقول الضيقة والمتحجرة عبر التاريخ دائما تقود البشرية إلى الحزبية والعنصرية والحروب والخراب والدمار والموت ..وما أحوجنا كذلك إلى عقلنة الخطاب الديني وتجديد الفقه الإسلامي، مع عصرنة خطبنا المنبرية، فخطبة الجمعة ما شرعت إلاّ لتذكير الناس بأمور دينهم ودنياهم بأسلوب راق، يحفز الناس على الاستقامة والمحبة والتعايش والتلاحم فيما بينهم، وتصحيح الأخطاء الشائعة بينهم، إضافةً إلى البعد عن كل ما يضر بوحدة الصف، وزرع الفتن بين المواطنين والمواطنات، مع حثهم على البر والتقوى والتعاون على الخير .