كنت لا أريد منذ البداية أن أدخل في السجال الدائر حول قضية “الأمين مشبال” بخصوص مناقشة أطروحة الدكتوراة في الأدب العربي، حول موضوع “بلاغة الخطاب السجالي السياسي عند عبد الإله بنكيران” ولكن أثارتني التعليقات الواردة بخصوص هذا الموضوع، وخصوصا ممن يحسبون على الفكر السياسي اليساري، فهي تعليقات وصلت إلى حد الشماتة والتشفي واستعمال عبارات قادحة من قبيل “عبرو عليك”. فلقد حز في نفسي ذلك لأنني أعرف جيدا شخصية “الأمين” العاطفية والمرهفة. خاصة وأن “ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس” كما يقال. فصاحب الاطروحة ناضل من أجل الفكر اليساري، ودفع الثمن باهظا من حريته التي سلبت، وهو لما يزال يخطو خطوات شاب يافع مندفع، راقته الشعارات الرنانة حول إقامة الدولة المثالية التي دعا إليها “ماركس” ورفاقه حيث تسود العدالة والحرية والكرامة والإخاء والمساواة. ومن ذا الذي لا يتطلع للعيش في هذه المدينة الفاضلة؟ لقد ذهب سنوات عديدة من عمره سدى نتيجة إيمانه بأفكار سياسية قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، فهو لم يحمل السلاح، ولم ينتم إلى عصابة إرهابية تهدد النظام والأمن العام، اللهم سوى ترديد الشعارات الثورية في رحاب الجامعة، وهي شعارات ما زال صداها يتردد بين جدرانها إلى اليوم. قام الأمين مشبال بمراجعة أفكاره رفقة مجموعة من الرفاق، فهل يجب أن نحاكمهم مرتين؟ مرة لما قاوموا “الاستبداد” ومرة ثانية بعد أن اقتنعوا بأن الأنظمة الصلبة لا يمكن تغييرها بمقاطعتها أو عن طريق رفع الشعارات وتوزيع البيانات، لأن ذلك لن يفت في عضدها، ولكن سيزيدها شراسة في مواجهة خصومها، وأن التغيير الوحيد الممكن هو أسلوب التفاوض والحوار وانتزاع المطالب والحقوق بالتدريج، وهو ما اصطلح على تسميته ب “استراتيجية النضال الديمقراطي” التي تبناها رفاق عبد الرحيم بوعبيد. فإذا كان اليسار الراديكالي ينصب المشانق لمن يرتد عن أفكاره ومبادئه، فما الفرق بينه وبين التيار الإسلامي المتطرف الذي يدعو إلى قتل “المرتد الخارج عن الجماعة” كيف يستسيغون وصف هؤلاء ب “الظلاميين” وهم يقتسمون نفس القناعات، وهي رفض الفكر المخالف؟ ! ونعود إلى موضوع الأطروحة، لنؤكد بأن الذي حدث، من الناحية القانونية، يعتبر تجاوزا في استعمال السلطة من طرف عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان مصطفى الغاشي، الذي يعرف الجميع كيف تسلق إلى هذا المنصب، رغم أن ترتيبه كان هو الثاني في اللائحة التي توصل بها مجلس الحكومة ليختار المستحق لهذا المنصب. حيث إن القرار المتخذ في توقيف المناقشة أو تأجيلها جاء بدوره معيبا من الناحية القانونية، لأنه تم بطريقة شفوية، لأن القرار الإداري المكتوب لا يلغيه إلا قرار من نفس النوع ووفق نفس الإجراءات، عملا بمبدأ “توازي الشكليات”. وأمام هذه التجاوزات، وبعد استنفاذ كل المراحل والإجراءات المسطرية لمناقشة هذه الأطروحة، من حيث قبول الأستاذ المشرف واللجنة العلمية الجامعية بموضوعها، ثم تشكيل اللجنة العلمية لمناقشتها والتداول بشأنها، فإن الأمين مشبال يعتبر إزاء كل هذه الحيثيات صاحب “حق مكتسب” ولا ينطبق عليه مبدا “مجرد الأمل” حتى يتم حرمانه من حقه في الوصول إلى المرحلة النهائية والختامية ألا وهي تقييم عمله سواء بالقبول أو بالرفض. ومن ثم فإن الأمين مشبال من حقه أن يطعن في قرار عميد الكلية بدعوى “إلغاء” قرار إداري مشوب بالتجاوز في استعمال السلطة، ولا شك أنه سيربح الدعوى، لتوافر جميع العناصر في صالحه، ولا يمكن لعميد الكلية أن يحتج بتزامن يوم المناقشة مع امتحانات الطلبة، لأن هذا العذر أقبح من الذنب، لأنه ليس ب “القوة القاهرة” التي تحول دون إجراء المناقشة. ومما لا شك فيه أن موضوع الأطروحة حول شخصية سياسية مثيرة للجدل هي السبب في كل هذه الأزمة، فالرغم من اختلافنا مع طريقة تدبير هذا الرجل لمرافق الدولة حينما كان رئيسا للحكومة، وحول طريقة تدبيره صراعاته السياسية التي غالبا ما كان يفتعلها لتوجيه ضربات تحت الحزام لخصومه، وامتعاضنا من تمييع النقاش السياسي حول المكاسب المالية للسياسيين، مثل الحديث عن إكمال إصلاح “الكوزينة والصالون” أو في طريقة معاتبة إخوانه الذين خذلوه، بقوله لهم “أن أغناكم كان يملك مجرد سيارة مرسيديس 240” أما الآن “الخير موجود”. ولكن يحق لنا أن نتساءل ما دام قد اختار البعض أن يجعل من خطابه موضوعا للحصول على شهادة أكاديمية رفيعة، من أن نتساءل: هل بالفعل يملك بنكيران خطابا سياسيا سجاليا؟ لا شك أن الإجابة على هذا السؤال لن تكون من الناحية المبدئية سوى القبول بهذه الفرضية. وذلك إذا اعتبرنا أن “السجال” من الناحية اللغوية والاصطلاحية ليس سوى المفاخرة والتفاضل وتحدي الخصوم بأن يصنعوا مثل صنيعه. الم يقل بنكيران أمام الملأ وتحت قبة البرلمان متحديا نائبة برلمانية: “ديالي كبير عليك” طبعا هو يقصد أن حزبه أكبر من حزبها الذي تفتخر بالانتماء إليه، ولا يعني التأويل الذي روجه خصومه السياسيون لتلك العبارة. ألم تكن بينه وبين حميد شباط سجالات كلامية سواء داخل البرلمان أو في المهرجانات الخطابية، انتهت بهذا الأخير إلى مغادرة المشهد السياسي برمته، ونفس الشيء ينطبق على غريمه اللدود إلياس العماري، الذي رفع بعد انهزامه في “معركة 07 أكتوبر 2015 ” الانتخابية، الراية البيضاء، والمطالبة في رسالته الشهيرة ب “المصالحة التاريخية الشجاعة”. أما آخر الشخصيات التي اختار السجال معها فهي شخصية عزيز أخنوش، والتي ربما ستشهد فصولها الأخيرة في انتخابات 2021، دون أن نغفل سجاله الضمني مع غريمه داخل الحزب سعد العثماني الذي لم يسلم من قفشاته من خلال نعته ب “اللطيف” أي “الضعيف الذي لا يقوى على المواجهة” وتارة بالهجوم عليه من خلال اتهامه بالخروج عن ثوابت الحزب، حينما قاد حملة منظمة للإطاحة ب “فرنسة المواد العلمية” أو طعنه الأخير في هوية لجنة إعداد النموذح التنموي الجديد اللبرالية. إنها سجالات تذكرنا بمقامات “الحريري” و “الهمذاني” وبنقائض “جرير والفرزدق” وغيرها من الحروب السجالية التي يحفل بها الأدب العربي القديم، والذي يكاد الفخر والحماسة والهجاء أن يكونوا من أبرز موضوعاته. وفي الأخير فإنه لا يمكنني أن أقيم العمل الشاق الذي قام به محمد الأمين مشبال طيلة السنوات الماضية لجمع النصوص وتحليل خطابها وتأويل دلالاتها اللغوية والاصطلاحية والبلاغية، وربطها بسياقها التاريخي، وبحقلها الفكري والمعرفي الذي نشأت فيه. لأنني لا أملك الكفاءة العلمية الكافية التي تؤهلني للقيام بهذا لتقييم مثل هذا العمل الذي له أهله وأصحابه، ولكوني لم أطلع بعد على هذا العمل الذي لا يزال حبيس أدراج اللجنة العلمية التي ستناقش هذا العمل، ولكنني أعتبر نفسي تواقا لقراءته، لأنني شغوف بأسلوب الأمين مشبال الذي يجمع ما بين السلاسة والتشويق والسخرية، لذلك نتمنى أن يصدر هذا الكتاب، حتى ولو لم يحز على درجته وقيمته العلمية المتوخاة وهي الدكتوراة، لأن قيمة الأمين مشبال أسمى من هذه الدرجة، ولا يمكن اختزالها في شهادة علمية.