لقد تميز خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكري العشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين بمجموعة من المميزات والخصائص، جعلت منه خطابا دقيقا ومليئا بالإشارات القوية إلى ما أصبح يتميز به الوضع الاجتماعي بالمغرب رغم كل ما تحقق من إنجازات كبيرة في مختلف المجالات، سواء على مستوى البنيات التحتية، سواء تعلق الأمر بالطرق السيارة والقطار فائق السرعة والموانئ الكبرى، أو في مجال الطاقات المتجددة وتأهيل المدن والمجال الحضري وغيرها من المشاريع الأخرى، منطلقا في ذلك من ترسيخ ملكية ومواطنة تعتمد على القرب من المواطن وتتبنى انشغالاته وتطلعاته وتعمل على التجاوب معها. كما أن هذه الإنجازات ارتبطت بالخيار الديمقراطي والتنموي الذي قاده جلالته بكل عزم، والإصلاحات العميقة التي أقدم عليها جلالته، والمصالحات التي تمت في هذا الإطار، والمشاريع الكبرى التي تم إنجازها، كل هذا كان له وقع كبير على تطور المغرب وتقدمه. لكن كل هذه المنجزات بحصيلتها الإيجابية لم تشمل مع الأسف كما يقول جلالته جميع فئات المجتمع المغربي، بحيث إن بعض المواطنين لا يلمسون مباشرة تأثيرها في تحسين ظروف عيشهم، وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية، والحد من الفوارق الاجتماعية وتعزيز الطبقة الوسطى. وقد تم التحذير من استمرار اتساع دائرة الفوارق الاجتماعية، والإقصاء الاجتماعي والتهميش، في أوساط المجتمع المغربي، وقدمت عدداً من مفاتيح تجاوز هذا الوضع، أبرزها توسيع قاعدة خلق الثروة الوطنية والرفع من نمو الاقتصاد الوطني عبر إحداث فرص الشغل، وكذا الاهتمام بالفئات التي تعيش وضعية هشاشة، خاصة في المناطق شبه الحضرية والقروية والجبلية. لذا فالخطاب الملكي كان موضوعيا واعتبر النموذج التنموي في السنوات الأخيرة لم يستطع تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، واعتبر جلالته ضرورة الإسراع بإخراج نموذج تنموي جديد يجيب على كل هذه الإشكاليات ويضع حدا للفوارق الاجتماعية. أولا: محدودية النموذج التنموي في السنوات الأخيرة وعدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة للمواطنين ويرجع هذا الأمر إلى مجموعة من التدابير التي كانت سائدة والتي لم تكن قادرة على معالجة مشكلة ولوج الفئات الهشة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، لا سيما تلك التي تقطن في المناطق شبه الحضرية والقروية والجبلية. لذا يتعين على الإجراءات المقررة في هذا الصدد أن تعالج هذه المشكلة. ومن أجل ضمان فعاليتها واستدامتها، ينبغي لسياسة الحماية الاجتماعية أن تعطي الأولوية لحلول ملموسة من أجل خروج مستدام من الفقر، وذلك من خلال تعزيز الأنشطة، وكذلك من أجل تجنب الاعتماد على التحويلات والبقاء في حالة هشاشة شديدة. كما أن توسيع قواعد خلق الثروة الوطنية وزيادة رصيد نظام نمو الاقتصاد الوطني من حيث إحداث فرص الشغل شرطان أساسيان لتقليص التفاوتات ووضع حد لتفاقمها على المستوى الاجتماعي والمجالي. وهذا المبتغى يستلزم اتخاذ إجراءات قوية لتسريع مسلسل التحول الهيكلي للاقتصاد المغربي، من خلال تعزيز القطاعات الواعدة والمحدثة لفرص الشغل ذات الجودة العالية وتسريع عملية التحديث التنافسي للمقاولات والصناعات الصغيرة والمتوسطة لتحرير مؤهلاتها بالكامل. وقد أكد على ذلك جلالة الملك في خطاب العرش حينما قال: “صحيح أننا لم نتمكن أحيانا من تحقيق كل ما نطمح إليه، لكننا أكثر عزما على مواصلة الجهود، وترصيد المكتسبات، واستكمال مسيرة الإصلاح، وتقويم الاختلالات التي أبانت عنها التجربة…”. وفي هذا الإطار، قرر جلالة الملك إحداث لجنة خاصة بالنموذج التنموي سيتم تنصيبها في الدخول المقبل. هذه اللجنة ستتشكل من مختلف التخصصات المعرفية والروافد الفكرية، من كفاءات وطنية في القطاعين العام والخاص، تتوفر فيها معايير الخبرة والتجرد، والقدرة على فهم نبض المجتمع وانتظاراته واستحضار المصلحة الوطنية العليا. كما أن هذه اللجنة لن تكون بمثابة حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية، وإنما هي هيأة استشارية، ومهمتها محددة في الزمان. كما أن على هذه اللجنة أن تأخذ بعين الاعتبار التوجهات الكبرى للإصلاحات التي تم أو سيتم اعتمادها في عدد من القطاعات، كالتعليم والصحة، والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي، وأن تقدم اقتراحات من أجل تجويدها. ثانيا: محددات ورهانات النموذج التنموي الجديد إن ما يتميز به النموذج التنموي الجديد هو إضافة لبنة جديدة في مسارنا التنموي في ظل الاستمرارية، وما سيتميز به من خلال ما ستسفر عنه خلاصات لجنة النموذج التنموي الجديد التي يجب أن تتميز بالتجرد والموضوعية ولو كانت قاسية ومؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول. فتجديد النموذج التنموي كما يقول جلالة الملك ليس غاية وإنما هو مدخل إلى مرحلة جديدة قوامها المسؤولية والإقلاع الشامل. وهي مرحلة واعدة، وذلك راجع لما يزخر به المغرب من طاقات ومؤهلات تسمح له بتحقيق أكثر مما أنجزه. لكن هذه المرحلة حافلة أيضا بالتحديات والرهانات التي يتعين كسبها، ونجد في مقدمتها: 1. رهان توطيد الثقة والمكتسبات: لكونها أساس النجاح، وشرط تحقيق الطموح. ثقة المواطنين فيما بينهم، وفي المؤسسات الوطنية التي تجمعهم، واستشراف مستقبل أفضل. 2. رهان عدم الانغلاق على الذات، خاصة في بعض الميادين التي تحتاج للانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية، باعتبار ذلك عماد التقدم الاقتصادي والتنموي، بما يتيحه من استفادة من فرص الرفع من تنافسية المقاولات والفاعلين المغاربة. فالانفتاح هو المحفز لجلب الاستثمارات، ونقل المعرفة والخبرة الأجنبية. وهو الدافع لتحسين جودة ومردودية الخدمات والمرافق، والرفع من مستوى التكوين، وتوفير المزيد من فرص الشغل. فإذ كانت الدولة والقطاع العام، والهيآت المهنية الوطنية، قاموا بمجهودات كبيرة للنهوض بدورهم والارتقاء بمستوى عملهم، إلا أن بعض القطاعات والمهن الحرة مثلا تحتاج اليوم إلى الانفتاح على الخبرات والكفاءات العالمية، وعلى الاستثمار الخاص، الوطني والأجنبي. وقد عبرت العديد من المؤسسات والشركات العالمية عن رغبتها في الاستثمار والاستقرار بالمغرب. لكن ما يتم تسجيله وقد أشار إلى ذلك جلالة الملك، حينما أشار إلى أن ثمة قيودا تفرضها بعض القوانين الوطنية، والخوف والتردد الذي يسيطر على عقلية بعض المسؤولين؛ كلها عوامل تجعل المغرب أحيانا في وضعية انغلاق وتحفظ سلبي. وقد اعتبر جلالة الملك أن الذين يرفضون انفتاح بعض المؤسسات بسبب فقدان مناصب الشغل هم في الحقيقة يخافون على مصالحهم، وذلك حينما قال: “فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية. بل بالعكس، فإن الاستثمار الأجنبي في هذه القطاعات، سيدعم جهود الدولة، ليس فقط في توفير الشغل، وإنما أيضا في تحفيز التكوين الجيد، وجلب الخبرات والتجارب الناجحة…”. 3. رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية: وقد وضح جلالة الملك أنه لبناء اقتصاد قوي وتنافسي، فإنه من الضروري مواصلة تحفيز المبادرة الخاصة، وإطلاق برامج جديدة من الاستثمار المنتج، وخلق المزيد من فرص الشغل. كما أن الأمر يتطلب الرفع من نجاعة المؤسسات، وتغيير العقليات لدى المسؤولين. فالقطاع العام يحتاج، دون تأخير، إلى ثورة حقيقية ثلاثية الأبعاد: ثورة في التبسيط، وثورة في النجاعة، وثورة في التخليق. وقد سبق أن دعوت إلى ضرورة تغيير وتحديث أساليب العمل، والتحلي بالاجتهاد والابتكار في التدبير العمومي. وقد أشار جلالة الملك إلى علاقة المواطن بالإدارة، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية والإدارة الترابية، أو بالمجالس المنتخبة والمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية”. وواصل الملك: “أقصد أيضا مختلف المرافق المعنية بالاستثمار وتشجيع المقاولات، وحتى قضاء الحاجيات البسيطة للمواطن، كيفما كان نوعها؛ فالغاية منها واحدة، هي تمكين المواطن من قضاء مصالحه في أحسن الظروف والآجال، وتبسيط المساطر، وتقريب المرافق والخدمات الأساسية منه. أما إذا كان من الضروري معالجة كل الملفات، على مستوى الإدارة المركزية بالرباط، فما جدوى اللامركزية والجهوية، واللاتمركز الإداري، الذي نعمل على ترسيخه منذ ثمانينيات القرن الماضي”. كما اعتبر جلالة الملك أن “تدبير شؤون المواطنين وخدمة مصالحهم مسؤولية وطنية، وأمانة جسيمة، لا تقبل التهاون ولا التأخير”. فالمحدد المرتبط بالتسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية هو مرتبط بضرورة تبسيط المساطر وإضفاء النجاعة المؤسسية التي يجب أن تميز النموذج التنموي الجديد. 4. رهان العدالة الاجتماعية والمجالية لاستكمال بناء مغرب الأمل والمساواة للجميع: لقد اعتبر جلالة الملك في أكثر من مرة أن تحقيق العدالة الاجتماعية يقتضي استحضار مجموعة من الرهانات التي يتعين التعاطي معها بكل جدية وموضوعية، وبروح الابتكار، ومن بينها على الخصوص: – إشكالية الفوارق الاجتماعية والمجالية، وعلاقتها بالإكراهات المطروحة على تدبير المنظومات الضريبية وأنظمة الحماية الاجتماعية. – مسألة تعميم الولوج للخدمات والمرافق الاجتماعية الأساسية، باعتبارها ركنا أساسيا من أركان العدالة الاجتماعية. – ضرورة إيجاد مؤسسات متشبعة بقيم التضامن والعدالة الاجتماعية، تساهم في حل المشاكل الحقيقية للمواطنين، والاستجابة لانشغالاتهم ومطالبهم الملحة. كما أن نجاح هذه المرحلة الجديدة يقتضي انخراط جميع المؤسسات والفعاليات الوطنية المعنية في إعطاء نفس جديد لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ببلادنا. كما يتطلب التعبئة الجماعية، وجعل مصالح الوطن والمواطنين تسمو فوق أي اعتبار، حقيقة ملموسة، وليس مجرد شعارات. كما أن المرحلة الجديدة تتميز بجيل جديد من المشاريع. الأمر الذي يجعلها تتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية، بما فيها الحكومة. ثالثا: خطاب العرش لسنة 2019 تأكيد على مغربية الصحراء وتذكير بما تحقق من مكاسب على الصعيد الأممي والإفريقي والأوروبي لقد كان خطاب العرش لسنة 2019، وهي الذكرى التي يخلد فيها جلالة الملك الجلوس على عرش أسلافه المنعمين، مناسبة كذلك للتذكير بالتعلق الراسخ بمغربية صحرائنا ووحدتنا الوطنية والترابية وسيادتنا على كل شبر من أرض مملكتنا. كما أن الخطاب كان مناسبة للوقوف على ما تحقق من مكاسب على الصعيد الأممي والإفريقي والأوروبي، وذلك بفضل الدبلوماسية التي نهجها جلالة الملك، خاصة مع الدول الإفريقية، التي أعطت نتائج إيجابية توجت بعودة المغرب إلى بيته الإفريقي وتغيير مواقف مجموعة من الدول بخصوص قضية وحدتنا الترابية. كما أكد جلالة الملك أكد أن المغرب ثابت في انخراطه الصادق في المسار السياسي تحت المظلة الحصرية للأمم المتحدة، وأكد جلالته أن المسلك الوحيد للتسوية المنشودة لن يكون إلا ضمن السيادة المغربية الشاملة في إطار مبادرة الحكم الذاتي. كما أن الخطاب كان فرصة لنهج اليد المدود تجاه الاشقاء في الجزائر، وفاء من المغرب لروابط الأخوة والدين واللغة والجوار التي تجمع الشعبين المغربي والجزائري، وهو ما تجسد مؤخرا كما وضح جلالته في مظاهر الحماس والتعاطف التي عبر عنها المغاربة ملكا وشعبا بصدق وتلقائية دعما للمنتخب الجزائري خلال كأس الأمم الإفريقية، ومشاطرة الشعب الجزائري مشاعر الفخر والاعتزاز بالتتويج المستحق بها، وكان بمثابة فوز للمغرب أيضا. فهذا الوعي والإيمان بوحدة المصير، وبالرصيد التاريخي والحضاري المشترك، هو الذي اعتبره جلالة الملك يجعل المغرب يتطلع بأمل وتفاؤل للعمل على تحقيق طموحات الشعوب المغاربية الشقيقة إلى الوحدة والتكامل والاندماج. إن ما يمكن استنتاجه من الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد 2019 أنه: خطاب واقعي وموضوعي انطلق من التفاف المغاربة حول الخيارات الكبرى للبلاد انطلاقا من الملكية الوطنية والمواطنة التي تعتمد القرب، الخيار الديمقراطي والتنموي، الإصلاحات العميقة من خلال المشاريع الكبرى والمصالحات التي تمت. خطاب مجدد من خلال طرح نموذج تنموي جديد محدداته تتجلى في رهان توطيد الثقة والمكتسبات لكونه أساس النجاح، رهان عدم الانغلاق على الذات والانفتاح على الخبرات والتجارب العالمية، رهان التسريع الاقتصادي والنجاعة المؤسسية ونخب جديدة، رهان العدالة الاجتماعية والمجالية. خطاب التأكيد على مغربية الصحراء وما تحقق من مكتسبات على المستوى الأوروبي والإفريقي والأممي، وأن المسلك الوحيد للتسوية المنشودة لن يكون إلا ضمن السيادة المغربية الشاملة في إطار الحكم الذاتي.