الانتحار ظاهرة شاذة في المجتمعات لكن تفاقمها يعني توفر اسبابها وهذه الظاهرة اصبحت متنامية بشكل ملفت في مناطق الشمال، ولمعرفة الاسباب الحقيقية ينبغي رصد العلاقة بين الثقافة و القانون والدين بحكم ان التعارض بينها في معرفة الافراد السطحية وسوء توجيههم سمح ببناء الشخصية المهزومة والغامضة لديهم ، واصبحت حياة الافراد تقوم على العلاقات المصلحية وعلى مبدأ اللامبدأ ومآزرة الظالم والدفع بالمظلوم الى قبول الظلم كشيء طبيعي والتسليم بكل انواع الاعتداء في مجتمع معقد التركيبة وعرض الشكوى على محكمات غيبية. مما يبعد المظلوم عن حقه في الواقع وتتلاشى المدة المطلوبة لاستعادة الحق في مقابل هناك من تعطى له حقوقه بسرعة لمكانته الاجتماعية، و حتى وان توهم الظلم يعاقب المتهم ، ومع اجراء مقارنة الافراد لأوضاعهم بالآخرين يضيق بهم الحال وينفذ صبر الانتظار ويتبخر الأمل في تحقيق عدالة في مقابل اسرار عدم تخلي المظلوم عن حقه في معاقبة الظالم الذي يكون في جزء كبير هو المجتمع والاسرة والقضاء والسلطات..، ومع هذه القاعدة تنامت ظواهر اجتماعية كالاعتداء المادي والمعنوي وفي مقدمتها الاغتصاب وزنى المحارم وانتزاع الحقوق الشخصية الفردية والعائلية. وفي ظل مجتمع يشفع لمن اقترف الذنب ولا يؤازر الضحية وأمام بعض السلوكات التي لا يمكن الاستدلال عليها من قبيل السب والشتم والحروب النفسية كالكذب والاتهام المغرض … لا يبقى امام الافراد الا اقصر طريق وهو الفعل السلبي و لاسيما انهاء الحياة بالطريقة التي تعبر عن رفض الانتماء الى المجتمع ورفض اللوم الأسري وتكرار كلام يزيد من الاكتئاب ولا يقدم حلا يذكر.
ومنطقة الشمال تحولت من منطقة عرفت بالثقافة الدينية الى حدود سبعينيات القرن الماضي الى منطقة ابتليت بزراعة القنب الهندي وحلول ثقافة الماديات التي تركز على ملكية الفرد التي حلت محل قيم القناعة والارتباط الاسري والتضامن والتكافل الاجتماعي، وشاعت مشاكل مرتبطة بهذا التحول كالتواصل الرقمي المعاصر وسوء تصريف حقوق الاسر ، واصبح اللجوء الى القضاء مكلف واللجوء الى الدين غير مجدي وعلى المستوى الثقافي ماتت مؤسسات التحكيم والصلح … وظهرت محاولات البحث عن الحلول الشخصية لمشاكل اجتماعية ونفسية ومادية حيث اصبح الفرد الذي يملك وان كان الاصغر في اسرته هو الذي يسمع لاقواله وان كانت خاطئة واصبح منذ زمن بعيد ان الجواب عن أي طلب ب"لا" تعنيف ورفض الذوق كراهية والكذب مقبول الى حد كبير … .
ان المجتمع يحتاج الى دراسة سوسيولوجية واقتصادية ودينية ستؤدي في النهاية الى ضرورة ايجاد مدونة سلوك مدنية بمثابة ميثاق صلح بين الثقافة والدين والقانون وهذا هو دور الوزارات المعنية. الاوقاف والثقافة والتعليم والعدل والداخلية لاخراج المجتمع من امو اج تسونامي الانتحار . وللتصدي للظاهرة ينبغي اجراء دراسة دقيقة واسعة وشاملة على عدة مستويات سرية وأخرى علنية وعشوائية و مركزة حضرية وقروية ذكورية وأنثوية حول المتزوجين وحول العزوبية. الشباب والعنوسة وحول المتعلمين والأميين وحول المشتغلين والعاطلين وحول المرضى والسالمين والذين لهم العزوة والمعزولين والميالين الى الزعامة والموالين لهم والمتدينين والظالين والذين لهم ابناء والمصابين بعقم والمرتبطين بعلاقة حب والمكبوتين والمتحررين والمحرومين والذين يملكون والفقراء والمتمتعين والمحرومين والمحضونين من طرف العائلات والمطرودين … وهذه الدراسة يجب ان تحتكم الى المرجعيات الدينية والثقافية في ملامسة الحقوق والحريات الطبيعية وتوزيع القيم وتبرير مكامن الخلل وشرح سبب التحول نحو القانون دون تمكين الافراد من ثقتهم به ودون ايصال الثقافة القانونية للجميع فالثقة انتهت من كل العلاقات والروابط العامة والاسرية الا في حدود ضيقة .