"حاول أن تقرأ، فإن معرفة الأشياء خير من جهلها"..يصعب جدّا ألا تثيرك هذه العبارة وأنت تمرّ بمحاذاة أحد المحلاّت بشارع موسى بن نصير بمدينة طنجة، وستزيد جرعة الاستغراب إذا مددت بصرك قليلا خلف الزجاج الذي ألصقت به العبارة، لتكتشف أن المحلّ هو محلُّ حلاقة، وأنه يعرض مجموعة كتب في الواجهة. وبعد السؤال عن الموضوع سيخبرك من لهُ علمٌ أن الأمر يتعلق بكاتب من طينة خاصة، مزَجَ فضاءَ مهنته بعالم الكتابة بشكل متفرّد، فاستطاع خلط كلماتٍ شاعرةٍ بشَعرٍ يخلّصُ الزبونَ منهُ، وكأن هذا لم يكن كافيا، فقرّر أن يبيع إنتاجاته من الكتب في المكان نفسه بعيدا عن الطريقة التقليدية في التوزيع والبيع. يُتم ومعاناة أحمد الخشين، ابن ال65 سنة، أو "الحلاّق الكاتب"، هو رجل عصاميّ من أبناء مدينة الشاون، ذاق اليُتم منذ شهره الثاني في الحياة، ودخل الكتّاب في سنه الخامسة قبل أن يبدأ رحلة معاناة، ثمّ أمل، فإبداع. يقول الخشين عن بدايات حياته "رحم الله فقيه الكتّاب، فقد جعلني من شدة قسوته أفرّ من التعلّم، وكان يقول لي غير ما مرة: لا خير فيك، وكان يقصد أنني لا أحضر له ما تيسّر من مالٍ لأنني يتيم على عكس باقي زملائي الذين كانوا يهادُونه بما تيسّر من السنتيمات". "لحدّ الآن، لازلت أشعر بغصّة في حلقي من شدة الرغبة التي كانت تنتابني في الالتحاق بالمدرسة، لكن ظروفنا المادية لم تكن تسمح بسبب رعاية والدتي لخمسة أيتام كنتُ أصغرَهم. كان لزاما عليّ أن أشتغل في مهنة "الدِّرازة" حتى سن الحادية عشرة، لأنتقل بعدها إلى القصر الكبير، حيث قُبلتُ هناك بالمعهد الديني، حتى وصلت مستوى الأولى ثانوي، فانقطعت مجددا عن الدراسة وعدت إلى الشاون"، يقول الخشين وفي صوته حنين شديد لتلك الذكريات. أوّل إصدار واصل الخشين طريقته العصامية في التعلم من خلال محادثاته مع زبنائه في مهنة الحلاقة التي كان قد تعلمها أثناء تواجده بالقصر الكبير. "كنت أختار النابغين منهم وأطرح عليهم السؤال تلو الآخر حتى أشعر أنني قد أشبعت نهمي المعرفي"، يقول الخشين، قبل أن يضيف: "سنة 1975 انتقلت إلى طنجة، مواصلاً تعليم نفسي بنفسي من خلال قراءاتي لعدد من المجلات الثقافية ومؤلفات الكتّاب العرب كطه حسين، وعباس محمود العقاد، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وآخرين". سنة 2000 سيقرّر الخشين أن يطبع أولى مؤلفاته، والذي كان عبارة عن مجموعة قصصية عنوانها "الدنيا في مُعجم الحلاّق تحتضر" دوّنها من خلال أحاديث جمعته بمئات، وربما آلاف، الزبائن، الذين وفروا لها مادّة خامّة ثرية ومفعمة بالتجارب. يقول عن أولى تجاربه: "حاولتُ طبعا أن أوزعها بالطريقة العادية، لكنني اكتشفت أن أصحاب المكتبات يشترطون أن يتم وضع الكتاب مجانا، وبعد فترة يعيدون لك الكتب التي لمْ تُبعْ، كما أن التعامل مع الكتب يتم بإهمال شديد. فتساءلت: في كل أنواع البضائع تدفع المحلات السعر بمجرد تسلم البضاعة، ولا يوجد هذا الشرط الغريب في إرجاع البضائع التي لم يتم بيعها، فلماذا هذه الإهانة لبضاعة الكتاب؟ وهكذا قررت أن أبيع كتبي بنفسي في محلي، آملا فقط أن أسترد مبلغ طباعتها لا غير دون التفاتٍ إلى ربحٍ أو ما شابه". وهل تحقّق المبيعات هذا المبتغى؟ جوابا عن هذا السؤال أخبرنا الخشين أن مجموعته القصصية الأولى قد نفذت فعلا، بينما باقي الكتب تسير بوتيرة مقبولة أهمّ ما فيها أنها تمكنه من استرداد مبلغ الطباعة. "بمجرد صدور أي كتاب جديد أبيع حوالي 100 نسخة في الأيام الأولى، ثم تتباطأ الوتيرة تدريجيا لتصل إلى 200 أو 250 نسخة بعد شهور، علما أنني أطبع 500 نسخة من كل كتاب لي". 7 مؤلفات.. والبقية تأتي وصلت مؤلفات الخشين لحدّ اللحظة إلى 7 مؤلفات، آخرها مجموعته القصصية الجديدة "في رحاب الناس"، بينما لديه مؤلفين في جنس السيرة الذاتية؛ وهما "اليتيم الذي حظي بالوصية" و"من المسؤول عن فطمة". أما في جنس القصة والرواية، فللكاتب 3 عناوين؛ هي "جعلوني لقيطا" و"أيام من دنيا الحياة" و"في رحاب الناس"، كما أن لديه كتابا في التصوف بعنوان "الناس وشيوخ الطرق المبجلين"، ولا ينوي الخشين أن يقف عند هذا الحدّ، حيث أخبرنا أن هناك مشروعا في الطريق ينتظر فقط أن يوفّر له السيولة المادية من أجل الطباعة. أسعار مؤلفات الخشين في المتناول ولا تتجاوز 25 أو 30 درهما، وهو أمر متعمّد وليس اعتباطيا، حسبما يفسّر لنا ذلك المؤلف، إذ "هناك عزوف عن القراءة لا أحد يستطيع نكرانه. فكيف نضيف إليه عبء الأسعار الغالية لمن تبقّى من عشاق القراءة؟ ولديّ عدد منهم يأتون خصيصا للسؤال عن جديدي من أجل اقتنائه. أنا لا يهمني الربح كما قلت. أنا فقط أبحث عن التوازن في العملية كلها". وعن أوقات الكتابة بالنسبة للخشين، فهي "كل أوقات الفراغ التي لا أمارس فيها مهنة الحلاقة، وهو الأمر الذي كان يلقى نقدا من طرف شريكة حياتي في بداية الأمر قبل أن تستسلم للأمر الواقع مشكورةً وتدرك أنني والكتابة يستحيل أن نفترقا"، يقول الخشين وابتسامة عرفان تعلو محياه. أعيشُ بها.. أعيشُ من أجلها وعن سؤال حول زبائنه ومدى اهتمامهم بما يكتب، خصوصا لحظات الحلاقة نفسها، قال الخشين: "نعم لديّ من بينهم قراء. لكن أثناء عملية الحلاقة يصعب على الزبون أن يقرأ كتابا نظرا لما يشكل ذلك من مشقة له ولي. هذا لا يمنع أن كثيرا منهم يُشبعون فضولهم من خلال التصفح". يقول عمّا منحته الحلاقة للكتابة في تجربته متحدثا بضمير الغائب في كتابه الأخير: "وهو كدأبه يفتح دكانه في الصُّبح المسطر، ويمضي وقته ويومه مع هذا النمط في الحياة بين أذواق المحلقين بين ميول وهموم الزبناء. ميول السياسة والسياسيين في الأيديولوجيات، ميول عشاق كرة القدم وفرق المقدمة والمؤخرة، وهموم الطلبة والشكوى بالأساتذة والإدارة، وشكاوى رجال التعليم بشقاوة التلاميذ وهموم المرضى مع الصحة، والأصحاء الذين يشتغلون بالمستشفيات من الأطباء والممرضين والمساعدين، وتظلمات الإدارة والإداريين والسلطة والسلطويين…". وعن الحلاقة والكتابة، أيّهما أقرب إلى قلبه، يختم الخشين مجيبا عن تساؤلنا في جملة واحدة: "الحلاقة أعيش بها، أما الكتابة فأعيش من أجلها". المصدر - Hespress.com