3.747,89 كم، تلك التي تفصل بين فلسطين وشمال المغرب، وتحديداً بلدة شفشاون التي تقع على كتف الشمال الغربي من جبال الريف، بيد أنك لا تنفكّ ترى الحكاية الفلسطينية ماثلة أمامك في كل زاوية تتنقّل فيها هناك. تطلّ فلسطين أمام ناظرك كلما سمعت شفشاونياً يتغنى بالأندلس، التي قدِم منها أجداده، معيداً أصوله لعائلات أندلسية بعينها، لتراه يقطن في حارة شفشاونية تحمل اسم حيّ أندلسي عريق كان يوماً. ستذكرها كثيراً كلما جلست لتحتسي كوباً من الشاي المغربي، فيتناهى لسمعك أنين المتواجدين حولك، ممّن يطربون على أغنية «يا زمان الوصل في الأندلس». لن تنساها أيضاً حين تلمح أكوام الصابون المغربي، فتستذكر المشهد ذاته في أزقة نابلس التي تعجّ بالصابون النابلسي، وستراها نصب عينيك كلما لمحت دوال العنب تظلّل سقف زقاق ما. وستستذكر عائلات القدس لا سيما آل العلمي، كلما رأيت امتداداً لهم في شفشاون، ليتحدثوا لك طويلاً عن هجرة شقّ منهم إلى حيّ المغاربة في القدس وتأسيس فرع مقدسي من العائلة المغربية هناك. لعلّ الفارق الوحيد الذي تلمحه بين حالتيّ الشجن الفلسطينية والأندلسية- المغربية، تكمن في أن فلسطين لم تكن يوماً سوى بلاداً عربية خالصة، ما يجعل من عملية الإحلال التي جرت على أرضها مأساة لا يمكن للتاريخ أن يقدم لها مثيلاً، إلا في حالة الهنود الحُمُر نوعاً ما، أما الأندلس، فما كانت يوماً سوى بلاداً أوروبية وصلها المسلمون ورُحّلوا عنها، بعد أن صنعوا حقبة من التاريخ الإبداعي الأكثر رهافة عربياً وإسلامياً. ستوغل أكثر بين جبال شفشاون الشاهقة ووديانها السحيقة وأزقتها الزرقاء وسُبل السقاية التاريخية المتاحة للأهالي والضيوف في أرجائها، كما سبيل ريف الأندلس المكسوّ بالفسيفساء الحمراء والذي يعدّ أقدم سبيل ماء قام الأهالي بتأسيسه منذ قدومهم للمغرب، بيد أنك ستعود لاستذكار فلسطين تحديداً، حين تستمع من الأهالي عن السبب التاريخي الذي يقف وراء طلاء المدينة بالأزرق. كان هذا حين طرِد من الأندلس من يدينون بالإسلام واليهودية، فما كان منهم سوى الالتجاء إلى شفشاون، والاحتماء من هجمات البرتغاليين تحديداً، وحماية اليهود من أي حملات تستهدفهم، ما دفعهم لتلوين المدينة برمّتها بالأزرق، الذي يرمز استخدامه لبيوت اليهود. وبذا، بات من الصعب على من يرغب بهم سوءاً معرفة أي البيوت هي لهم.. وكانت المكافأة التي حصدها العرب بعد عقود من هذه الحماية أن طعِنوا في الخاصرة باحتلال فلسطين وتهجير أهلها، وحلول اليهود أولئك مكان الشعب الأصلي الذي ضاع بين المنافي. الشجن الآنف برمته، وعلى عمقه وثقله، لم يسلب شفشاون جمالياتها، بل زادها رهافة وعذوبة، ما لا يجعل من تصنيفها سادس أجمل مدينة في العالم لعام 2016 أمراً مستغرباً، ولا تصنيفها واحدة من أكثر عشر مدن في العالم إراحة للأعصاب، شيئاً غريباً؛ ذلك أنك لا تغرق في لجة الأزرق فحسب، بل وفي الطابع الصوفي الحزين الذي يهيمن على المدينة، إلى جانب وداعة ساكنيها ولين جانبهم وشجنهم البالغ ورومنسيتهم اللافتة في التعاطي مع أي ضيف يحلّ عليها. في شفشاون، لا بائع يطمع بمزيد من النقود، ولا متسوّل يثقل على المارة بإلحاحه، ولا لصوص تخشى منهم على حقيبتك ومتعلقاتك، ولا أهالي يعبسون في وجهك، بل يبشّون بمجرد أن تلتقي الأعين. وفي شفشاون، يغرف لك صاحب المطعم فوق الحصّة المحددة، بمجرد أن يلمح أنكَ ضيف على المدينة. وفي شفشاون، يحدب عليك موظف الاستقبال في النزل المغربي الأصيل وفي سيارة الأجرة أيضاً، فينصحونك، كما لو كانوا يعرفونك منذ زمن، أن ترتدي جاكيتاً يقيك من برد الأعالي. مهرجان شفشاون الدولي للتصوير الضوئي لعلّ شفشاون، التي اشتقّ اسمها من كلمة أمازيغية تشير للمرتفعات، واحدة من أجمل بقاع العالم وأكثرها فرادة، ما لا يتطلّب كاميرا احترافية لالتقاط جماليات أزقتها وطبيعتها وعروضها الفنية التي تجمع بين الطابعين المغربي والإسباني. على الرغم من هذا، أفلح مجموعة من الشباب المتطوّعين، ممن يهجسون بعوالم الكاميرا والتصوير الضوئي، في تنظيم الدورة الرابعة من مهرجان شفشاون الدولي للتصوير الضوئي، والذي عُقِد في الفترة الواقعة بين 13 و 27 من الشهر الجاري. تلك الجهود، حفلت بحب كثير وغدق معنوي بالغ، ما جعل ميزانية المهرجان المحدودة تفيض عطاءً على قلتها، وما جعل المهرجان وجهة عالمية وليس عربية فحسب؛ إذ تعدّدت جنسيات المشاركين فيه لتشمل ما يزيد على خمس عشرة جنسية. طيف واسع من الندوات وورش العمل والفعاليات التصويرية بين مواقع المدينة الزرقاء، وعلى رأسها القصبة التي بناها مؤسس المدينة مولاي علي بن راشد في العام 1417، محاكياً الطراز الأندلسي في القلاع من حيث الهيكلية لا النقوشات الباذخة. كذلك باب العين الذي يُدخِلك في عالم الأزقة الزرقاء ببيوتها ومتاجرها ومقاهيها الرصيفية، إلى جانب ساحة وطّاء الحمّام، التي تعيد للذهن وجود الساحة في الموروث الشعبي الفلسطيني على وجه التحديد؛ إذ كانت تحتضن أمسيات الزجل والأعراس والأحزان واستقبال الضيوف من خارج البلدة. لعلّ ما من مدينة بوسع اللاجئ، أي لاجئ على اختلاف تفاصيل حكايته وإرهاصاتها، البكاء على صدرها، بقدر شفشاون، التي حملت ومازالت أعباءً تاريخية كثيرة على رأسها التضحية التي يعزّ نظيرها، وإن لم تقابَل بالعرفان لاحقاً. * صحفية فلسطينية