مرتيل: تجديد المكتب الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة    بوتين يعتذر لرئيس أذربيجان عن حادث تحطم الطائرة    قوات إسرائيلية تقتحم مستشفى بشمال غزة وفقدان الاتصال مع الطاقم الطبي    زياش يضع شرطا للموافقة على رحيله عن غلطة سراي التركي    تشديد المراقبة بمحيط سبتة ينقل المهاجرين إلى طنجة    الاحتفاء بالراحل العلامة محمد الفاسي في يوم اللغة العربية: إرث لغوي يتجدد    رصيف الصحافة: موريتانيا تنتبه إلى خطورة البوليساريو وأطماع الجزائر    غزة تحصي 48 قتيلا في 24 ساعة    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    وفاة بامبا بعد أسبوع من نيل لقب رابطة الملاكمة العالمية    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    عملية نوعية تفكك عصابة مخدرات    "العربية لغة جمال وتواصل".. ندوة فكرية بالثانوية التأهيلية المطار    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هذا ما قضت به محكمة عين السبع في حق محمد أوزال    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    مدرب الوداد: بالنسبة للمغرب الفاسي كل مباراة ضدنا بمثابة نهائي الكأس    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    فئات هشة تتسلم مساعدات بالرحامنة    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    مباحثات مغربية موريتانية حول تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين    سطاد المغربي يهدد صدارة رجاء بني ملال    مونديال الأندية.. الوداد الرياضي يشارك في ورشة عمل تنظمها "الفيفا" بأمريكا    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن قائمة أفضل الهدافين    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    النفقة و"تقاسم الثروة" و"إيقاف السكن" .. تصحيح مغالطات حول مدونة الأسرة    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    وزارة النقل تؤجل تطبيق معيار "يورو6" على بعض أصناف السيارات    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المقابر المنسية أو عشر سنوات في السجون السرية للبوليساريو - 2 -


من يوليوز 1989 إلى ماي 1996
قضية تصفية الملف الأمني
زيارة محمد عبد العزيز
بعد خمس سنوات: الدخول إلى المخيمات:
من يوليوز 1989 الى ماي 1996
قضية تصفية الملف الأمني
العقارب والأفاعي في قبر مغلق
صدر الطبعة الأولى من كتاب محمد أحمد باهي «المقابر المنسية، عشر سنوات في السجون السرية للبوليساريو» في جزئين سنة 1996، مباشرة بعد عودة المؤلف الى أرض الوطن، وبعد عشر سنوات من الاعتقال الظالم في السجون السرية للجزائر الممتدة من صحراء الهكار في مقبرة برج عمر إدريس الى صحراء حمادة تيندوف في مقابر سجن الرشيد. وهاهي ذي الطبعة الثانية من هذا الكتاب تصدر وقد مرت على قضية الصحراء أزيد من ثلاثين سنة وعاد الى أرض الوطن فرارا من جحيم معسكرات تيندوف الآلاف من المواطنين من مختلف الفئات والأعمار والقبائل، والواجب «يفرض علينا جميعا بذل المزيد من الجهد والإلحاح من أجل إطلاق سراح الباقين هناك تحت الاحتجاز من المدنيين والعسكريين على السواء، والواجب يفرض على الدولة دعم جمعيات المجتمع المدني والنشطاء الفاعلين من أبناء المناطق الصحراوية المغربية للعمل في إطار حملات مستمرة وشاملة لكسب الرأي العام الدولي وممارسة كل الضغوط الممكنة لإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين وطي هذا الملف المأساوي طيا نهائيا.
فمازلنا في حاجة الى تعبئة أكبر وعمل أكثر وتضافر أقوى لكل الجهود لفضح الممارسات اللاإنسانية التي تمارس من طرف البوليساريو في مخيمات تيندوف.
وفي هذا الإطار يدخل هذا الكتاب الوثيقة التي تعتبر شهادة حية على الجرائم التي ترتكب ضد أهل الصحراء ولمعاكسة الحقوق المشروعة للمغرب في وحدته الترابية والوطنية.
ولقد بات من الواضح اليوم أن البوليساريو التي ترفض أي حل سلمي للنزاع وترفض السماح للصحراويين بالعودة الطوعية لبلادهم وأهلهم، عاجزة في الواقع عن اتخاذ أي قرار مالم يكن صادرا وموجها من طرف السلطات الأمنية والعسكرية الجزائرية التي تدير هذا النزاع المفتعل وتحرك بيادقها في الاتجاه المعاكس لأن هناك مبادرة سلمية يقترحها المغرب بما في ذلك مشروع الحكم الذاتي الذي يؤيده كل أبناء الصحراء المغربية.
وهاهي هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن رغم المبادرات والمحاولات المتعددة تجد نفسها عاجزة عن الخروج من النفق وتواجه جدارا من الرفض الذي لامبرر له..
سيجد القارئ في صفحات هذا الكتاب - الوثيقة جردا سريعا لتطورات القضية الصحراوية، كما سيجد فيه صورة عما يعانيه المحتجزون في مخيمات تيندوف.
وسوف يتركز جزء هام منه في محنة سجن الرشيد الذي وضعته أجهزة الأمن العسكري الجزائري بعيدا عن الأنظار لتمارس فيه كل أنواع التعذيب والترهيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وسجن الرشيد في تيندوف عبارة عن قبور تحت الأرض، حفرها المعتقلون والأسرى لتكون مأواهم الأخير، والمئات منهم لقوا حتفهم في تلك القبور تحت التعذيب، والمئات شوهت أجسادهم بالكي بالنار والبتر والتشويه، كما فقد المئات قواهم العقلية بعد الجسدية.
من يوليوز 1989 إلى ماي 1996
ضمن المؤلف الجزء الثاني من هذا الكتاب ماعاشه من أحداث من يوليوز 1989 الى ماي 1996، بعد أن استعرض في الجزء الأول سنوات الاعتقال في الجزائر والادعاءات الباطلة والتهمة الملفقة التي حاولت الأجهزة الجزائرية إلصاقها به دون فائدة، وبعد حديثه عن الأسباب والخلفيات والمناورات وراء ذلك كله.
في هذا الجزء الثاني حديث عن الحمادة بصفة خاصة، عن سجن الرشيد السري الرهيب وعن قادة البوليساريو وأوضاع المحتجزين ومعاناتهم وتجربة المؤلف بينهم والتي دامت سبع سنوات ونصف.
قال: «كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر، إلا المصيبة/ الكارثة تبدأ كبيرة، ثم تصغر.. وتتلاشى.
وهذا هو حال المحنة/ المصيبة التي استمرت عشر سنوات كاملة، بين الاتهامات الباطلة، والتعذيب الممنهج الرهيب، والتنقل بين المعتقلات السرية المظلمة، والإقامات الإجبارية المحروسة، والقواعد العسكرية، والزنازن الضيقة، والغيران المحفورة تحت الأرض.. ومن شمال الجزائر الجارة الى شرقها، ومن مدنها الى صحرائها.
ومن العاصمة الجزائر الى برج عمر إدريس على بعد 2000 كلم بين كثبان الرمال وتحت الشمس الحارقة، ومنه الى سجن الرشيد السري بنواحي تيندوف والذي تستعمله أجهزة الأمن الجزائرية وعملاؤها من البوليساريو للتقتيل والتعذيب بعيدا عن أنظار العالم بما في ذلك الشعب الجزائري وحتى بعض السلطات الجزائرية التي لا تعلم به وبما يجري فيه.
كانت البداية في فبراير 1987 كارثة عظمى ومحنة لاتطاق، وحاولت أجهزة الأمن العسكرية الجزائرية أن تجعل منها قنبلة دعائية ضد المغرب واتهامه بالارهاب والعنف والاغتيال ولكنها فشلت في ذلك.
ومع مرور السنوات العشر، انقلب السحر على الساحر، فانهارت أجهزة الأمن الجزائرية، وثار المحتجزون في معسكرات تيندوف ضد جلاديهم، وانكشفت أسطورة البوليساريو، والتحق بأرض الوطن فرارا من ذلك الجحيم الآلاف من المواطنين والمواطنات فرادى وجماعات.
وفي ماي 1996، تمكنت بعد انهيار البوليساريو من الإفلات من سجن الرشيد، والالتحاق بأرض الوطن» (ص 116 117).
قضية تصفية الملف الأمني
ويتحدث المؤلف عن العلاقات المغربية وقضية تصفية الملف الأمني، فيشير الى أنه ابتداء من مطلع سنة 1989، بعد انتفاضة أكتوبر 1988 والزلزال السياسي الذي أصاب الجزائر وأطاح بمراكز القوة والنفوذ، وقضى على جبروت أجهزة الأمن العسكري التي كانت تقبض بيد من حديد على شؤون البلاد والعباد في الجزائر.
ابتداء من ذلك التاريخ، قررت السلطات الجزائرية ضمن قرارات أخرى سياسية وأمنية واجتماعية، أن تطوي ملفا عالقا محيرا يتعلق بعلاقات الجزائر مع المغرب، وبعلاقاتها مع صنيعتها الجمهورية الوهمية في نواحي تيندوف.
ذلك الملف هو ملف المعتقلين المغاربة في السجون الجزائرية الموقوفين في برج عمر إدريس.
وقد حاولت السلطات الجزائرية إنكار وجود المؤلف في سجونها وادعت أنه لا علاقة لها ولا علم لها بوجوده في الجزائر ورئيس الحكومة الجزائرية إذ ذاك سيد أحمد غزالي كتب مذكرات رسمية باسم حكومته يقول فيها (إن السلطات الجزائرية لا علم لها بقضية باهي محمد أحمد وأن هذا الصحفي المغربي إذا كان معتقلا فقد يكون ذلك عند جبهة البوليساريو، لم يسبق للسلطات الجزائرية أن أوقفته أو تعلم بوجوده في الجزائر.
ويعلق المؤلف على هذا قائلا: «وربما كان سيد أحمد غزالي رئيس حكومة الجزائر لا يعلم فعلا.. لأن الذي يحكم الجزائر ويعلم فعلا هو مدير الأمن العسكري إذ ذاك الجنرال لكحل عياط وهي أجهزة المخابرات العسكرية..» (ص 121).
بعد الحملة التضامنية العالمية لصالح المؤلف ودفاعا عنه، قررت السلطات الجزائرية نقله على جناح السرعة الى معسكرات البوليساريو في تيندوف بعيدا عن أعين الملاحظين والمراقبين وتجنبا لأي إحراج أمام المنظمات الدولية والضغوط المغربية المحتملة، خاصة وأن هذه الفترة شهدت بدايات بناء صرح اتحاد المغرب العربي الذي تحمس له الرئيس بنجديد وأثار مخاوف بعض الأطراف في الجزائر التي لاترغب في أي تقارب مع المغرب لأن مصالحها الشخصية وارتباطاتها الاقتصادية والمالية والسياسية سوف تصاب بالعجز والشلل. ولذلك تم نقل المؤلف من برج عمر إدريس فجأة الى وركلة ومنها الى البليدة. يقول: «في اليوم الرابع نقلت بواسطة سيارة عسكرية بالحراسات والأسلحة ولوازم الأمن الى المطار.
وفي طائرة مدنية من طائرات الخطوط الجوية الجزائرية لا أعرف اتجاهها كنت بين ضابطين مربوطا بحزام الأمان وحزام الأمن، واعتقدت أن الطائرة متوجهة الى وهران حيث سأتمكن من العودة الى المغرب عبر مدينة وجدة.
وكان ذلك الاعتقاد مرة أخرى خطأ لأنّني كنت أنطلق من حسن النية.. وكانوا ينطلقون من سوء النية. فقد كان المطار الذي وصلنا إليه هو مطار تيندوف. ومنه الى الرشيد.
الأفاعي والعقارب في قبر مغلق (...) هكذا انزلت الى سجن الرشيد تحت جنح الظلام معصوب العينين مقيد اليدين والرجلين بحبال خشنة قاسية ووضعت في حفرة كالقبر مغطاة بقطعة واحدة من الزنك تتلاعب بداخلها الصراصير والفئران وأسراب الذباب والناموس. وتتسلل اليها بحثا عن البرودة.. العقارب والأفاعي.. لقد كان التعامل مع الصراصير والذباب وحتى الفئران التي لا تتحرك وتنشط إلا في الليل تعاملا سهلا وهينا وأحيانا مسليا.
ولكن كيف يكون التعامل مع العقارب والأفاعي؟ داخل قبر وفي الظلام؟ ولأول مرة في حياتي ذقت لسعة العقرب وشدة آلام السم.. لم أكن أتصور حدة ذلك الألم القاتل ولم أكن أظن أنها عقرب لئيمة لسعتني في الظلام الى أن أشرقت الشمس ورأيت العقرب اللئيمة ميتة بجانبي بعدما أفرغت سمها في عروقي... وتكررت لسعات العقارب مرات، وبدون تطبيب ولا رحيم.. إلا الله وحده وصبر أيوب.
وكان سم الجلادين والمرتزقة أشد قساوة وأذى...» (ص 124).
في مثل هذا الجو الجحيمي الذي تبلغ فيه درجة الحرارة 50 درجة، يصبح الماء أهم شيء. يقول المؤلف: «داخل الحفرة القبر قضيت الليلة الأولى والنهار الموالي دون حركة. مقيدا، وملقى على أرض متربة في جو خانق.. بلا طعام.. وبلا شراب وبلا هواء ولا نوم.
كان الماء أهم شيء افتقدته... وأحتاجه بإلحاح، وفي نهاية اليوم الثاني جاءني حارس ثخين أحول ملثم بلثام وسخ أخضر، يحمل صحنا قذرا من الألمنيوم المعوج، ولعله ضرب بالحجارة مرارا وعمدا ليكون على هذا الشكل المقرف وبداخل الصحن شيء لم أره ولم أعرف ماهو، مع قطعة خبز يابس وجاف، لا يستطيع الذين في مثل حالتي كسره، وبالأحرى مضغه رغم الجوع.
والأهم من ذلك... ذلك الإناء البلاستيكي الأصفر الذي به ماء للشرب ... وكنا في زمن الصيف الحار، أكثر من 50 درجة تحت الظل.. وأنا في حفرة تحت قطعة الزنك، تجعل من الحرارة العادية حرارة مضاعفة مرات ومرات، كانت قطعة الزنك تحدث أصواتا رهيبة بفعل الحرارة التي سلطت عليها من شمس حارقة وملتهبة مع انعدام أية نسمة هواء في الفضاء..» (ص 126).
وتتوالى لقطات شريط التعذيب والتنكيل، ففي النهار يمنع الكلام وفي الليل يمنع النوم، والمحتجزون يحفرون قبورهم بأيديهم،
ف « سجن الرشيد وضعته أجهزة الأمن العسكري الجزائري بعيدا عن الأنظار، لتمارس فيه أبشع أنواع التعذيب والتمثيل بأجسام الأبرياء من الصحراويين، ولتمارس فيه خرق كل القوانين والأعراف السماوية والوضعية.
وهو عبارة عن مساحة شاسعة محاطة بمرتفعات صخرية تجعل منه شبه حفرة كبيرة يصعب الوصول إليها أو رؤيتها من أي مكان، ووسط تلك المساحة أجبر السجناء منذ سنة 1975 على حفر قبورهم والسكن داخلها وأحيطت تلك القبور بعد ذلك بسور عال يضمها جميعا، وأغلقت جميع الطرق والمنافذ المؤدية إلى ذلك المكان، ووضعت مراكز للحراسة الدائمة ليلا ونهارا بعيدا عن السجن في مختلف الاتجاهات لمنع الاقتراب من المكان أو رؤيته..»(ص 146).في هذا السجن المقبرة، هناك من قضى عشر سنوات وهناك من قضى عشرين سنة كاملة. والعشرات من سكان تلك القبور توفي تحت الأرض وتحت التعذيب... ويكشف المؤلف حقيقة أخرى وهي أن جبهة البوليساريو وضعت قوانين صارمة لسكان المعسكرات، وأهمها منع السكان من طرح أي سؤال حول أي شخص يتغيب ومنع طرح أي سؤال حول العمل الذي يقوم به أي فرد، ومنع الروابط العائلية والأسرية، حتى لايقول أحد أخي أو أبي أوعمي أو خالي أو ابن عمي إلخ كان هذا النوع من العلاقات العائلية يعرض صاحبه للعقاب، .. وإلى حدود سنة 1988 بعد انتفاضة أكتوبر، بدأت أخبار سجن الرشيد تصل إلى المحتجزين في المخيمات واكتشف الناس لأول مرة أن أبناءهم ورجالهم كانوا في
قبور الرشيد طيلة السنوات الماضية منذ سنة 1975، وكان البعض بحسن نية يعتقد أن الجبهة لاتتوفر على أي سجن وأنها لاتحبس الناس، وأن الذين اختفوا هم في مهمات بعيدة في الخارج أو في مواقع سرية، وجميع المواقع سرية عند البوليساريو.
زيارة محمد عبد العزيز
وينقل المؤلف ظروف ووقائع زيارة محمد عبد العزيز له:
«دخل محمد عبد العزيز ملثما بلثام أخضر جديد ولباس عسكري.
عرفته منذ أن وطأت قدمه عتبة الدار. رغم اللثام الذي وضعه بهدف مغالطتي. (...)» (ص 153).
وحاول محمد عبد العزيز إقناع المؤلف بأن عمر الحضرمي، عضو اللجنة التنفيذية سابقا هو المسؤول عما تعرض له من تعذيب، وهذه الإشاعة هي التي روجتها الجبهة داخل المخيمات أثناء وجود السيد عمر الحضرمي في واشنطن وبعد التحاقه بأرض الوطن.
واهتم محمد عبد العزيز بأن يعرف، من المؤلف، كيف ينظر المغاربة إلى البوليساريو. فأجابه بصراحة ووضوح وأفهمه أن الصحراء ليست قضية الملك وحده أو قضية الحكومة وحدها ولا هي قضية أحزاب، هي قضية الشعب المغربي بكامله، بكل فئاته وهيئاته ومنظماته وأحزابه وحكوماته المتعاقبة..
كانت 20 غشت ثورة الملك والشعب ضد الاحتلال الفرنسي، وحققت تلك الثورة هدفها لأن فرنسا لم تستطع وقفها أو القضاء عليها أو فصل العرش عن الشعب، واليوم يتكرر نفس الموقف ونفس الالتحام ونفس الهدف، شعب بكامله وراء ملكه باقتناع كامل وإصرار وإيمان بأن الصحراء مغربية ويجب أن تبقى كذلك، ولن تستطيع أي قوة على وجه الأرض مهما كانت أن تقتلع ذلك الاقتناع وذلك الإيمان من قلوب وعقول المغاربة جميعا...وعاد محمد عبد العزيز يسأل المؤلف عن الحل الممكن في نظره لهذه القضية.
واستعرض رئيس جمهورية الرابوني الخيالية ما جرى في لقاء مراكش، متحدثا عن وفد الجبهة الذي كان يضم البشير مصطفى السيد والمحفوظ علي بيبا وإبراهيم غالي، وكيف استقبلوا من طرف جلالة الملك وماذا قالوا أمامه، وموقف الجزائر من كل ذلك.
وانتقل محمد عبد العزيز والمؤلف للحديث عن ليبيا ومنظمة الوحدة الافريقية والوضع في الجزائر وأحوال المحتجزين في المخيمات. وأخيراً طلب الرئيس الوهمي من المؤلف إعداد تقرير يتناول تطور قضية الصحراء منذ الستينيات، ويقدم بصورة مفسرة اقتراحات الحل الممكن من وجهة نظر المغرب.
وأعد ذلك التقرير بتفصيل ، وقدم الاقتراحات التي يراها ممكنة للتوصل إلى حل في إطار الوحدة الوطنية والوحدة الترابية.. مسترشدا بخطب جلالة الملك في مختلف المناسبات.
وفي الزيارة الثانية (في يناير 1990) سأل محمد عبد العزيز المؤلف عن العلاقة بين المغرب والجزائر في ظل الأوضاع والتطورات العالمية الجديدة فكان جوابه: «محكوم على المغرب والجزائر بالتعاون والتكامل.. لاخيار لنا في مواقعنا الجغرافية، اتحاد المغرب العربي ليس قضية عاطفية أو شعاراً سياسيا مرحليا، اتحاد المغرب العربي الذي كان حلم الأجيال السابقة قبل الاستقلال، أصبح اليوم ضرورة تفرضها المصالح الاقتصادية ومتطلبات التنمية ومواجهة النمو الديموغرافي والعلاقات المغاربية مع أوربا ومع العالم. وضرورة تفرضها حاجة هذه الملايين من البشر ومن الشباب بصفة خاصة إلى توفير مجالات العمل ووسائل العيش، والتطور
لمسايرة ومواكبة العصر ومواجهة القرن القادم، الخلافات الإيديولوجية تجاوزتها الأحداث، ليس من مصلحة الجزائر الآن في ظروفها الحالية أن تدخل في صراعات قديمة أو حديثة بلا فائدة، وليس من مصلحتها معاداة المغرب أو محاولة تحقيق زعامة العالم الثالث. إن كل مقوّمات التكامل الاقتصادي والتبادل التجاري قائمة بين البلدين.
والجزائر أكثر حاجة لمساندة المغرب والانفتاح عليه، بينما المغرب ليس في حاجة إلى الجزائر على الأقل في المرحلة الراهنة، المغرب لا يحتاج البترول الجزائري ذا النوعية الخاصة (الخفيف) الذي لا يتلاءم مع التركيبة الصناعية ومعامل التكرير المغربية التي أحدثت لاستخدام نوع مختلف عن بترول الجزائر.
بينما المنتوجات الفلاحية والغذائية والنسيجية ومختلف الصناعات الخفيفة بما في ذلك الأدوية وقطع الغيار وغيرها الموجودة في المغرب وحتى اليد العاملة الفلاحية بصفة خاصة والمتخصصة في مجالات أخرى كالسياحة والفندقة والخدمات والبناء وغيرها مطلوبة وضرورية للجزائر سواء من حيث الجودة أو من حيث التكلفة.
وفيما يتعلق بقضية الصحراء، فالجزائر مثل ليبيا ومثل إيران ومثل إثيوبيا وباقي الدول الإفريقية والعربية سوف تختار في النهاية مصالحها الحقيقية، وتبحث عن الحل الذي يحفظ لها ماء الوجه..» (ص 164).
لكن، للأسف، لا يبدو أنّ هذا هو المسار الذي تريد أن تسير فيه الجزائر، وهي تصرّ على معاكسة المغرب في حقوقه المشروعة ووحدته الترابية!
وقدّم المؤلف بعد ذلك صوراً محزنة لحالات تعذيب وحشي تعرّض لها مغاربة على يد البوليساريو. وكيف عرض البشير مصطفى السيد، أثناء زيارته للمؤلف، في سجن الرشيد، أن تستفيد الجبهة من تجربته وثقافته، ويعلق المؤلف على ذلك بقوله: «كانت العروض واضحة، وكنت أعرف أنّ البشير يريد خوض معارك حاسمة مع خصومه، ويريد كسب عطف رأي عام واسع داخل المعسكرات وإرضاء القبيلة التي وقع عليها ظلم 1988، ومن جهة ثانية كان البشير مصطفى يشعر بالذنب تجاه أحد أبناء قبيلته (..) الذي وقع عليه ظلم دون حماية قبلية» (ص 175). وكان جواب المؤلف وطلبه الوحيد هو مغادرة الحمادة
بعد خمس سنوات: الدخول إلى المخيمات:
دخلت مرحلة جديدة كانت رائعة بكل المقاييس كما قال المؤلف رغم قساوة السجن والغربة والعزلة كانوا يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
«يوم 5 فبراير 1987 دخلت الجزائر معتقلا. ويوم 5 فبراير 1991 كان الدخول إلى المخيمات رغم مكر المرتزقة ومناورات أسيادهم.
بعد خمس سنوات من العزلة والاعتقال والتعذيب، والحيلولة دون أيّ اتصال لي بالعالم الخارجي. بعد خمس سنوات من تردد الأمن الجزائري في تنفيذ حكم الموت وإنكار وجودي أمام العالم وبعد فشل محاولات البوليساريو بقاء اعتقالي سرا إلى الأبد، ها أنا أدخل المخيمات وأتصل بالمحتجزين وألتقي بالأهل والأحباب، وأتعرف على معاناة أهلنا وأبنائنا وشيوخنا، وأعيش بينهم وسط خيامهم وأستمع إلى شكاويهم ويسمعون مني حكاية المحنة والأكذوبة وفشل المرتزقة» (ص 176 177).
واستعرض المؤلف صوراً من الصراع بين قادة المرتزقة، ومقابلة وزير الداخلية الحقيقي والصوري عبد القادر الطالب عمر، ومقابلة أول وفد صحفي في مخيم أو سرد، واستعمال الرشوة والمال الحرام لإقناع المؤلف بالالتحاق بالمخيمات، وكيف التقى الطلبة والشباب، وموقف صحافة الجزائر، والسرقات بين الهلال الأحمر الجزائري والبوليساريو، ومغامرة الخلاص من الجحيم، بتفاصيلها المثيرة، إلى غير ذلك من الوقائع والقضايا التي تناولها المؤلف بأسلوبه الواضح الشفّاف الواقعي وبتصوير صادقٍ لمعاناة مشتركة تحت نير البوليساريو المنظمة الوهمية. وبذلك يستحق هذا الكتاب القراءة، وسيبقى مرجعاً تاريخيا لا غنى عنه، يضيء مرحلة خطيرة في تطور قضية الصحراء المغربية، والعلاقات المغربية الجزائرية، ومحاولات البوليساريو الفاشلة اليائسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.